حين يُقال سري كانيي - رأس العين، لا يُستحضر مجرد اسم مدينة محتلة، مشطورة، على حدود الخريطة السورية التركية، في شكلها السايكسبيكوي المعدل، بل تحضر خريطة كاملة من الألم، والجراح المفتوحة، والبيوت المغتصبة، والأرض المستباحة، والذاكرة المُشظاة بين الحدود والأسلاك. هي ليست بلدة نائية فقط، بل صورة مكثفة عن ظلم جيوسياسي معقّد، تقاطعت فيه الخيانات، وتداخلت فيه خرائط المصالح الإقليمية والدولية، وتحوّل فيها الكردي إلى فائض جغرافي، وعقبة في طريق المشاريع الكبرى.
منذ أن بدأت تركيا بتنفيذ مخططها الاحتلالي للمناطق الكردية في سوريا، تحت ذريعة محاربة "حزب العمال الكردستاني"- الحزب الذي ينشط داخل تركيا، ويشارك ممثلوه في برلمانها- صار واضحًا أن الهدف الحقيقي ليس أمن تركيا، بل تغيير ديمغرافي ممنهج، وإخراج الكرد من جغرافيتهم التاريخية.
احتلال عفرين في عام 2018 كان النموذج الأول، حيث تم تهجير السكان الأصليين، وتمكين ميليشيات مأجورة مدعومة تركيًا من فرض واقع جديد: سرقة البيوت، حرق الأشجار، تغيير أسماء الشوارع، نهب الآثار، قلع الزيتون، تفكيك البنية الزراعية، وترويع المدنيين. وكان ذلك بمباركة دولية، أو بصمت شريك: الروسي في صفقات الضبط، والأميركي في توزيع الخريطة.
إقرأ أيضاً: ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة
ثم جاء الدور على سري كانيي - رأس العين - المدينة الحدودية التي كانت جزءًا حيًا من جسد الجزيرة، ليُعاد اقتطاعها بضربة واحدة، دون أن يُحرّك العالم ساكنًا.
الاحتلال التركي لسري كانيي لم يكن مجرد دخول عسكري، بل كان عملية اجتثاث سكاني كاملة. فقد تم تهجير أهل المدينة عنوة، وصودرت منازلهم، وتم تسكين جماعات وعائلات لا تمتّ للمكان بصلة، منهم من جاء من وراء البحار، ضمن سياسة تعريب وتغيير ديمغرافي مفضوحة.
من بقي من سكان المدينة داخل سوريا، أمسى كلاجئ داخلي في بقية مدن الجزيرة - عامودا - الحسكة، قامشلي، الدرباسية، تربسبي، ديرك. بعضهم سكن خيام النزوح، وآخرون تقاسموا بيوتًا ضيقة مع أقربائهم. ومنهم من هاجر إلى الشتات، يحمل مفاتيح بيته معه، أو عقد أرضه التي أصبحت الآن مزروعة بأسماء الآخرين.
إقرأ أيضاً: الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة
الملف الإنساني لأهالي سري كانيي لا يزال من أكثر الملفات الكردية تهميشًا. لم يجد الاهتمام الكافي من النخب الكردية، ولا من الناشطين الحقوقيين، ولا من المؤسسات الدولية التي لطالما تحدثت عن حق العودة والكرامة.
لم تُحل أوضاعهم القانونية، لم تُعوض أراضيهم، لم تُؤمّن لهم مساكن بديلة، لم تُفتح لهم ملفات استرداد ممتلكاتهم. سلطة دمشق تلوذ بصمتها الثقيل، تجاه هذه المدينة، تحديداً، والاحتلال التركي يواصل ترسيخ واقعه الاستيطاني، والمعارضة السورية المرتبطة بأنقرة كرّست هيمنتها على حساب الكردي الذي لا يجد له مكانًا في بيتٍ بناه بيده، من دون أن تصل إلى حل لهذه المأساة، قبل أن تحل هي، وتغدو نتيجة طبيعية لمأساة، حولت ذاتها إلى جزء منها!
اليوم، بدأت عفرين تشهد حراكًا داخليًا لعودة السكان إلى بعض أحيائهم، بعد أن تغيرت المعادلات الميدانية، وسقطت رهانات بعض الفصائل المسلحة. عاد بعض المهجرين إلى بيوتهم، رغم الألم، رغم الخوف، رغم الخسارة. رغم موت الآلاف من أهلها خارج مدينتهم، وفي الشتات والمهاجر، ناهيك عمن هم لايزالون في سجون الاحتلال في تركيا. لكن سري كانيي ما تزال أسيرة الغياب. لا ضوء في نفقها. لا خطة للعودة. لا أي نداء حقيقي يطالب بإنصاف سكانها.الحديث عن أي مشروع كردي، أو وطني حر، دون استعادة سري كانيي، هو نصف مشروع. هو: لا مشروع. الكرامة لا تتجزأ. الأرض لا تقبل أن تُقسم. المأوى ليس ترفًا، ولا الأرض سلعة. من نُزعت عنه مدينته، نُزعت عنه هويته.
إقرأ أيضاً: مأثرة التدوين وسقوط التخوين
ولهذا، فإنَّ كل صوت لا يطالب بالعدالة لأهالي سري كانيي، هو صوت ناقص.
وكل من يتحدث عن الخرائط دون أن يشير إلى هذه المدينة - المستباحة المنفية من الخارطة - يشارك بصمته في جريمة سرقتها. وآن للمنفى أن ينتهي. آن للذاكرة أن تعود إلى مكانها.
آن لسري كانيي أن تُقال باسمها، وتُروى حكايتها، ويعود أهلها. أصحابها المهجرون إلى بيوتهم. آن للغرباء الدخلاء أن يغادروها!؟