: آخر تحديث
وضعت أوزارها قبل 80 عاماً:

الحرب العالمية الثانية وسموم الأيديولوجية اليمينية

1
1
1

بعد ويلات الحرب العالمية الثانية لم يحدث استسلام ألمانيا دفعة واحدة؛ إذ وقّع العسكريون النازيون الاستسلام بعد انتحار أدولف هتلر يوم 30 نيسان (أبريل) 1945 في برلين على ثلاث دفعات: الأولى في خيمة عسكرية بسيطة على تل في مقر المشير البريطاني برنارد مونتغمري في هايده لونيبورك في 4 أيار (مايو) في مقاطعة سكسونيا السفلى كاستسلام جزئي. بعدها، تمكن الفرنسيون من الحصول على توقيع ثانٍ للاستسلام في بلادهم، حيث أقام الحلفاء الغربيون بقيادة الجنرال دوايت أيزنهاور المقر الرئيسي لقوات الحملة المتحالفة في إحدى مدارس مدينة ريمس. هناك في فجر يوم 7 أيار (مايو)، وداخل قاعة الخرائط في تلك المدرسة، وقّع جنرالان من الجيش الألماني الاستسلام غير المشروط، ليعلن بعد ساعات قليلة الأدميرال الألماني كارل دونيتز نهاية الحرب العالمية الثانية في القارة الأوروبية بالجملة التالية: "في الثامن من أيار (مايو)، الساعة الحادية عشرة مساءً، ستصمت المدافع!". أما التوقيع الثالث فانتُزع في منطقة تابعة لحي ليشتنبرك في برلين.

من يزر العاصمة الألمانية، يطالعه فوق جدار متحف برلين كارلسهورست نص بالألمانية باللون الأبيض يقول: مكان الاستسلام، أيار (مايو) 1945. هناك، في مقر قيادة الجيش الأحمر، وقّع كبير ضباط الألمان المشير فيلهلم كايتل الاستسلام غير المشروط لألمانيا للمرة الثالثة في 8 أيار (مايو) 1945 في بهو ضباط مدرسة قلعة كارلسهورست الرائدة.

لا شك في أن القضاء على النازية قبل 80 عامًا، والتي كانت أبشع نظام دموي عرفته الإنسانية، يُعتبر من أكبر التحولات المفصلية في تاريخ الحروب والأنظمة الوحشية والمعادية للإنسانية. وبهذه المناسبة سيكون يوم 8 أيار (مايو) 2025 عطلة رسمية في برلين. تهدف هذه العطلة الإضافية في العاصمة الألمانية إلى زيادة الوعي بحقيقة بسيطة مفادها أن "التعايش السلمي" ليس موضوعًا بديهيًا وسهل المنال، وإن كان ذلك ممكنًا. وعادة تُقام فعاليات تذكارية في جميع أنحاء ألمانيا وكذلك في أصقاع كثيرة من القارة الأوروبية التي عانت الكثير من ويلات النازية. إن أهمية تذكير الناس والرأي العام بجرائم النازية والأفكار المسمومة لليمين المتطرف ضرورة تاريخية أكثر من أي وقت مضى، وعلى وجه الخصوص في ظل النجاحات التي يحققها حزب البديل الألماني (AfD) والتيارات المتطرفة والشعبوية الأخرى في القارة الأوروبية.

إقرأ أيضاً: قبل أن يتولى ترامب ولايته الثانية

وتتزامن الذكرى الثمانين لنهاية الحرب مع حدث مهم أيضًا، ألا وهو تصنيف الدائرة الاتحادية لحماية الدستور في ألمانيا (وهي الاستخبارات الداخلية للبلاد) ذلك الحزب كجهة يمينية متطرفة على مستوى البلاد أجمعها، وليس فقط في ثلاث ولايات شرقية، مؤكدة أنَّ الحزب يسعى وراء أهداف معادية للدستور الألماني، وذلك في انتهاك واضح لكرامة الإنسان. وفي التقرير الذي أعدته الدائرة المذكورة أعلاه والمكوَّن من 1100 صفحة، يرد من بين أمور أخرى، أنَّ الفهم السائد داخل هذا الحزب عن الشعب الألماني هو أنه "كيان عرقي"، الأمر الذي يتعارض مع النظام الديمقراطي الحر. وهذا هو نفس الأساس الذي بنت عليه النازية المشؤومة أفكارها العنصرية. ولنتذكر أنَّ رئيسة الحزب المتطرف، آليس فايدل، صنفت في محادثتها مع إيلون ماسك قبيل الانتخابات على منصة إكس أدولف هتلر كـ"يساري الروح... وشيوعيًا"، متناسية عن سبق إصرار، الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين الاجتماعيين، الذين تم سوقهم إلى معسكرات الاعتقال من قبل ذلك الدكتاتور وأعوانه المجرمين.

وكما كان متوقعًا، فقد هدد من جانبه بيورن هوكه، وهو رئيس الرابطة الإقليمية للحزب في مقاطعة تورينغن، موظفي جهاز المخابرات الداخلية على منصة إكس قائلاً: "لا يسعنا إلا أن ننصح موظفي الدائرة بالبحث عن عمل جديد. في النهاية، وكما هو الحال دائمًا في التاريخ، ستكون النتيجة: إذا كنتَ مُنخرطًا في العمل، فأنتَ مُنخرط فيه". غير أنه قام بعد ساعات قصيرة بحذف المنشور. وهذا يذكرنا بالتهديدات التي يطلقها دائمًا اليمين ضد القضاء على سبيل المثال في أميركا. على أيّ حال، إنَّ هجوم اليمين المتطرف الفاشل على مبنى البرلمان الألماني في برلين قد وقع بتاريخ 29 آب (أغسطس) 2020، أي قبل الهجوم "الناجح" على الكابيتول في واشنطن من قبل أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتاريخ 6 كانون الثاني (يناير) 2021.

وبما أنَّ الحكومة الأميركية الحالية هي أيضًا من نفس الطينة اليمينية، فقد سارعت واشنطن، وهذا ضمن سياق محاولاتها الممنهجة التي تهدف إلى فرض السردية القائمة على الكذب والمغالطة، وهذه المرة على لسان وزير خارجيتها ماركو روبيو، بالتنديد بالتقرير قائلاً إنَّ الدائرة الاتحادية الألمانية لحماية الدستور منحت لنفسها بذلك التقرير "صلاحيات جديدة لمراقبة المعارضة. هذه ليست ديمقراطية، بل استبداد مُقنَّع" (كذا في نص الوزير). وكأنَّ الولايات المتحدة الأميركية تستطيع أن تطلق على نفسها اليوم تسمية "ديمقراطية"، بعد أن قامت بانتخاب مذنب مدان قانونيًا كرئيس للبلاد والذي يحكم منذ تسلمه السلطة بأوامر تنفيذية فقط. فقد أصدر ترامب أكثر من 140 مرسومًا في أول مئة يوم من ولايته، وبذلك حطم الرقم القياسي الذي تم تسجيله في عام 1933. فأميركا اليوم تشبه حقًا دولة الانقلابات في العالم "الثالث والرابع"، لا قيمة فيها للدستور ولا القانون، ناهيك عن احترام القضاء. تجدر الإشارة إلى أن الأبحاث التي أجراها مركز رايس للقانون والأمن (Reiss Center on Law and Security) في كلية الحقوق بجامعة نيويورك تظهر أن حوالى ثلث قرارات السيد ترامب تعرضت للطعن القانوني.

إقرأ أيضاً: حظوظ وعواقب فوز ترامب في الانتخابات القادمة

وبهذا الشأن أيضًا قال مستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض جيك سوليفان عن وضع أميركا اليوم، وذلك في مقابلة له مع القناة الألمانية الثانية ZDF بأن الرؤساء السابقين للبلاد، سواء أكانوا من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، لم يختلفوا: "كان هناك أساس مشترك للقيم والتي أصبحت الآن موضع تساؤل جدي".

وعندما نقول هذا الكلام لا نقصد أنَّ اليمينية الحاكمة اليوم في أميركا هي نفس الأيديولوجية لليمينية النازية. ففي هذا الصدد نتفق مع ما كتبه مايكل ليند عندما سمى الترامبية بـ"اليمينية الجديدة".

والأمر لا يختلف عن الوضع في روسيا اليوم، والتي تريد كعادتها أن تحتفل هذه الأيام بالنصر على النازية. وإن كان دور السوفييت إيجابيًا حقًا وموضع اعتراف، ولكن هل الأنظمة الروسية موضع شكر واعتزاز في أوروبا؟

فقد رافق بداية نشوب الحرب العالمية الثانية صعود قوة ظلامية أخرى إلى جانب النازية، صادرت الحريات في نصف القارة الأوروبية فيما بعد، وكانت مصرة على بسط نفوذها المشؤوم على كل الدول التي استطاعت احتلالها، وكانت بولندا من أكبر ضحاياها، حيث قامت أجهزة المخابرات السوفيتية السيئة الصيت بقتل ما يصل إلى 25 ألف ضابط بولندي (بعض المصادر تتحدث عن 12 ألفًا) في قرية روسية تُدعى كاتين وخمسة مواقع أخرى، وذلك في يوم الثالث من نيسان (أبريل) 1940. وقد كانت النازية والستالينية متفقتين في سياستهما في بداية شراكتهما للقضاء على المثقفين والأكاديميين البولنديين بإجراءات إرهابية منظمة، كل من جانبه. النازية في شرق البلاد ضد المدرسين والكهنة والأكاديميين، والروس في الغرب. ومن "الأخطاء" التي وقعت فيها لندن وواشنطن أثناء الحرب الكونية الثانية أن لا رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل ولا الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، واللذين كانا بحاجة إلى المساعدة السوفيتية في الحرب للقضاء على النازية، اهتما بحجم الطاقة الإجرامية لنظام جوزيف ستالين الدموي.

إقرأ أيضاً: الاستعلاء و الإشكالية في تفسير التاريخ

في عام 1990 اعترف الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف بارتكاب المخابرات الروسية جريمة كاتين. وفي عام 2000، تمَّ افتتاح نصب تذكاري مشترك هناك. ولكن الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين لم ولن يعترف بإطلاق النار الجماعي الذي أمر به ستالين ضد الضباط البولنديين. فبوتين من نفس الصنف المخابراتي. لذا تظل أسماء مرتكبي تلك الجريمة البشعة سرية.

لحسن حظ أوروبا انتهت النازية قبل 80 عامًا، بيد أن لا الأفكار اليمينية المتطرفة انتهت ولا سوف تنتهي، مثلها مثل الحروب العدوانية الروسية.

فأوروبا تواجه بعد ثمانية عقود من الحرب تحديًا يكاد يكون من المستحيل التغاضي عنه...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.