ما إن بدأ وهج الثورة السورية يخفت، بل ما إن بدأت هذه الثورة تُحرَف، وتُسرق، وتُستخدم أداة لسرقة وطن، حتى تكشّف الخيط الرفيع بين الحلم والانكسار، بين نشيد الكرامة ورصاص التناحر. إذ لم يُجهَض مشروع الدولة فحسب، بل تم وأده تحت ركام الفصائل والرايات المتعددة، التي استبدلت مفردة "الوطن" بـ"الحيّ"، و"الهوية الوطنية" بـ"الطائفة"، و"الشعب" بـ"المكوّن".
لقد تحولت الطائفة من بناء روحي مفترض وجامع إلى سلاح، من مرجعية ثقافية أو دينية إلى أداة قمع وتفتيت. وهنا تكمن المأساة الكبرى، لا في وجود الطوائف، بل في هذا الاستخدام الممنهج لها لبناء سلطات هجينة، ترفع شعارات الثورة، بينما تنسخ آليات الاستبداد الأسدي بحذافيرها، فقط بتغيّر اللبوس: علم مختلف، خطاب مغاير، ولكن القبضة ذاتها.
ومعروف أنَّ ما جرى في سوريا ليس صراعاً أهلياً محضاً، بل محاولة إعادة خلق الصراع على نحو أسوأ، للإجهاز على ما لم يُجهز عليه بعد، كوصفة تفكيك ممنهج استُورد من الخارج، وطُبّق بخبرات من مراكز قوى إقليمية ودولية، لطالما أدركت أن المفتاح الأخطر لتدمير مجتمع ما، هو اللعب على وتر الطائفة، لا سيما حين تُختزل الدولة في مكوّن واحد، تحت غطاء إيديولوجي قومي أو ديني، كما فعلت السلطة الأسدية، ثم كما فعلت من بعدها "السلطات البديلة" التي استنسخت أدواتها، في إطار هجين.
إقرأ أيضاً: مأثرة التدوين وسقوط التخوين
لقد فرضت، في لحظة ما، "العلوية السياسية" كنتاج خلطة فسيفساء طوائف وأطياف بدرجات تماسية متفاوتة، بوصفها النموذج الذي استمر بالقوة لعقود، وراح يتهاوى. لكن ما حلّ محلّه لم يكن بديلاً وطنياً، بل أشكالاً من "السنيّة المسلّحة"، أو "القومية المُؤسلمة"، التي تحمل سمات الدولة الأموية المزعومة، ولكن دون ما كان في تلك الدولة من قيم وبذور وأسس انفتاح وعدالة ولو رمزية. الدولة الأموية، رغم كل ما يمكن أن يُقال عنها، لم تُبنَ على إقصاء شامل، بل كان فيها مكانٌ ـ ولو محدود ـ للآخر المختلف دينياً ولغوياً. أما النسخة "الثورية" الممسوخة اليوم ـ كما ظهرت في مواجهة العلويين والدروز ـ فهي خالية حتى من تلك القشرة الرمزية.
أن يكون اسمك مخالفاً، أن تكون لهجتك مختلفة، أن تُتّهم فقط لأنَّ ملامحك لا تناسب جغرافيا الفصيل الحاكم، أو المبرمج وفق رؤية ظلامية، فذلك هو الموت اليومي الذي يعيشه السوري في مناطق "التحرير"، كما كان يعيشه تحت وطأة النظام. وكأن الجغرافيا كلها باتت سجوناً مفتوحة، لكل من لم يُقسم يمين الطاعة، سواء كان درزياً، كردياً، علوياً، إسماعيلياً، أو حتى سنياً لا يرفع الشعار المناسب.
وقد شكّلت الطريق بين دمشق والسويداء، خلال الأيام الأخيرة، أحد أبرز مسارح هذا الاستهداف الطائفي، حيث جرى اصطياد طلابٍ وعمالٍ ومواطنين دروز، ناهيك عن الكثير من الآمنين وهم في عقر بيوتهم، لا لذنب اقترفوه، ولا لانخراطهم في أي مواجهة، بل فقط لانتمائهم الطائفي، في عمليات خطفٍ وقتلٍ بدمٍ بارد بعد أن تم توقيفهم في نقاط تفتيش تديرها فصائل راديكالية، من دون محاكمة، ومن دون اتهام، ومن دون أيّ اعتراف بالمسؤولية. إن تلقي طائفة بكاملها "درساً" على أيدي متطرفين، فقط لأنها لم تشارك في آلة القتل، هو فعل إبادة رمزية، لا يقل فظاعة عن الجريمة نفسها، ويعكس مدى التحلل الأخلاقي.
وللحقيقة، فإنَّ الفضيحة ليست فقط في كل ما تمَّ بحق الدروز، ومن بينها ممارسات الفصائل التي اقتحمت قرى ومناطق درزية وحلقت كرامة الشباب مع شواربهم، بل في الصمت المدوي لمن يدّعي تمثيل الشعب، إذ: لا اعتذار، لا محاسبة، لا مراجعة. وبدلاً من مواجهة الجريمة، يُتّهم الضحية بالمبالغة، في إعادة إنتاج لخطاب النظام: "المشكلة فيكم، أنتم من بالغتم، أنتم من لم تفهموا طبيعة الثورة"، "أنتم من انتهكتم المقدس"، " أنتم عولتم على العدو".
إقرأ أيضاً: الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة
ما حدث للدروز اليوم، سيحدث غداً لغيرهم، كما حدث للعلويين، أمس، وما تم التساهل فيه هنا أو هناك سيطرق أبواب دير الزور، وما ارتُكب في عفرين، بات نموذجاً لنسخ الإهانة وتعميمها. لا فرق بين من يرفع راية دينية ليمارس الاستبداد، ومن يرفع شعار "العلوية إلى الأبد" أو "الأموية إلى الأبد"، طبعاً العلوية السياسية ابنة الخلطة الطائفية المتعددة، طالما أنَّ جوهر الممارسة واحد: السلطة لأهل الطائفة، والإذلال للمختلف.
وليس من نافل القول إنه من المعيب أن يُساء إلى قومية كاملة ـ كما يحدث للكرد مثلاً ـ بشبهة الانفصال، احترازياً، كما تُجيّش لذلك وسائل التواصل، أو أن تُحاصر طائفة بأكملها لأن لها تراثاً مذهبياً مستقلاً. سوريا اليوم تدفع ثمن عسكرة الطائفة، لا الطوائف ذاتها، بل الفكرة التي تمت هندستها لتصبح فيها الطائفة مرادفاً للخيانة، أو معياراً للولاء، أو حقلاً للتصفية العشوائية، رغم زئبقية المعيار، وتحولاته، وفق رافعات ثنائية القوة والاستبداد.
الأسوأ من كل ذلك أنَّ جزءاً غير قليل من المشروع المعارض بات يدور في الفلك ذاته الذي رسمه النظام. إذ يتم تبنّي خطاب الدولة الدينية، الدولة الأحادية، تحت عنوان "تحرير". لكن عن أي تحرير نتحدث حين يُنتهك الجسد باسم العقيدة؟ وحين يُستبعد المكوّن المختلف لأنه لم ينخرط في آلة الحرب؟
إقرأ أيضاً: ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة
تركيا التي تدير الفصائل وكأنها مكاتب تعهّد، ليست بعيدة عن المشهد. ولكن اللعنة ليست في النظام التركي فقط، بل فيمن قبل بأن يكون أداة له، فيمن اعتبر الطائفة سلّماً نحو الغلبة، لا شريكاً في بناء وطن.
من هنا، علينا أن نعلم أن أي مشروع لا يتأسس ولا يبدأ أو لا ينطلق من مبدأ العدالة، فإنه لا يمكن أن يكون مشروع دولة. وأية سلطة لا تُحاسب، ليست سوى عصابة. أما من يعتبر الكرامة "ترفاً سياسياً"، فهو شريك في صنع الهاوية.
وبدهي، أن الدولة لا تُبنى على الطائفة، فحسب. وأن الدين لا ينبغي أن يكون أداة فصل. كما أن الطائفة ليست جريمة حتى تُحاسَب. بل إن الجريمة تكمن في أن تستمر الكارثة، وأن يصمت من يملك القرار، وأن تُكافأ الفصائل على إذلال الناس، فقط لأنها رفعت الشعار المناسب.