: آخر تحديث

الصقر والملعب الأخير

1
0
1

كأنني أهبط من على سلّم زمني وهمي، حين خطت قدماي أرض الدوحة لأول مرة في عام 2006. لم تكن زيارتي سياحية كما قد يتوقّع أحد، بل أقرب إلى زيارة مقام روحي، أو حجّ إلى زمنٍ مضى، زمنٍ تحوّل إلى طيفٍ يسكن الذاكرة أكثر مما يسكن الجغرافيا. وهناك، في زاوية شبه منسيّة من الذاكرة والمكان، التقيت من تبقّى من نخبة مجلة "الصقر" الرياضية الثقافية، تلك المجلة التي لم تكن تصدر حبراً على ورق فحسب، بل كانت صوتاً ينبض من قلب الملاعب، وأرواح الجماهير، وحنجرة المشجع العربي النقيّ.

توقّفت "الصقر" عن الصدور قبل عام 2007، للمرة الثانية، وكأن الحياة أرادت طيّ صفحة من النقاء المهني والإعلامي، ذلك النوع من الصحافة الذي يُكتب بالشغف، لا بالميزانيات. جلستُ مع الزملاء القدامى، والمايسترو الهادئ، الأستاذ سعد محمد الرميحي، رئيس التحرير، الذي بدا كأنه خرج من رواية كلاسيكية لم يتأثّر فيها الزمان، ولا ابتلعها التسارع الجنوني للتقنية. لم يتغيّر وجهه، ولا ملامحه الوجدانية، بل بدا ساكناً كمنارة وسط طوفان، تذكرنا أن بعض القيم لا تقبل المساومة، حتى لو تكسّرت السفن من حولها.

لكن الزمن... آه من الزمن! تغيّر كل شيء من حولنا، من ملامح الناس، إلى نبرة الحديث، إلى صدق المواقف. الزمن الذي اعتدنا أن نركن إليه كبوصلة، صار اليوم خنجراً خلفياً. تغيّرت النفوس، وتبدّلت القيم، وصار الإعلام في أغلبه صدىً باهتاً للضجيج، لا مرآةً للروح. الزمن غيّر الجميع، حتى الذين أحببناهم في زمن الصدق، أجبرتهم الحياة على لبس أقنعة جديدة. وكأن الإنسان اليوم بات مثل الحرباء، يبدّل جلده لا للبقاء فحسب، بل للتأقلم مع بشاعة المرحلة.

حين كانت "الصقر" تصدر، لم تكن المجلّة رياضيةً فحسب، بل كانت فسيفساء عربية، تحتضن بين سطورها عشق الرياضة، وأخلاقيات المهنة، ومرايا الواقع السياسي والاجتماعي، حتى بدت أحياناً وكأنها حارس لذاكرة عربية مشرقة، قبل أن تغزوها ظلال الانحدار.

تماماً كما تغيّرت الأغنية العربية... يا لها من مقارنة موجعة! تلك الأغنية التي كانت في زمن أم كلثوم، وعبد الحليم، وفريد الأطرش، تنقل نبض أمة، وتبثّ وجداناً كاملاً في أغنية من عشرين دقيقة. أما اليوم، فالأغنية أقصر من تنهيدة، وأقلّ صدقاً من إعلان تجاري. تراجعت الأغنية العربية، كما تراجعت الروح، وغرقت في وحل السوق، وضجيج الإيقاعات المصنّعة، التي لا تُحرك وجداناً، بل تُحفّز الرقص الجسدي فحسب.

وها نحن، لا نجد سوى ذاكرتنا نتمسّك بها كطفل يتعلّق بثوب أمّه وسط الزحام. نعود إلى أسماء حفرها الزمن في القلب، أسماء نجوم الكرة العربية في العصر الذهبي، ذاك الذي يمكن أن نطلق عليه – دون تكلّف – "الزمن الجميل". ما بين 1978 و1990، عاش العرب لحظة مجد رياضي وإنساني حقيقي، حيث كانت المباريات أكثر من مجرد تنافس... كانت احتفالاً بالروح.

كيف لنا أن ننسى طارق ذياب، حمادي العقربي، تميم الحزامي، أو الحارس العملاق الصادق ساسي "عتوقة"، من جيل تونس المجيد في مونديال الأرجنتين 1978؟ تلك اللحظة كانت انفراجة في جدار الخيبة العربية، وكانت شرفاً كروياً في قارة تحتفي بالمستديرة كما تحتفي بالحرية. ومثلهم، سطعت أسماء من الخليج والمشرق والمغرب العربي: منصور مفتاح، مبارك عنبر، حسن القاضي، عنبر بشير، محمد دهام "قطر"، جاسم يعقوب، فيصل الدخيل، حمد بو حمد، أحمد الطرابلسي، عبدالله معيوف، فاروق ابراهيم، عبد العزيز العنبري، مؤيد الحداد، يوسف سويد "الكويت"، محمود الخطيب، حسن شحادة، فاروق جعفر"مصر"، ماجد عبدالله، صالح النعيمة، أحمد عيد، فهد خميس "السعودية"، عبد الغني طاطيش، هيثم برجكلي، حسين نعّال، مروان قسطلي، شاهر سيف، كيفورك مارديكيان "سوريا"، مجبل فرطوس، حسين سعيد، رعد حمّودي، واثق أسود، فلاح حسن، علي كاظم، هادي أحمد، دوكلس عزيز، ناظم شاكر، عدنان درّجال "العراق"، حمّود سلطان "البحرين"، الأخضر بللّومي "الجزائر" فراس أحمد "المغرب". القائمة تطول وتفيض، ولا تتسع لها حتى قلوبنا.

ولئن كانت الملاعب يومها ترابية، والحفر كثيرة، والخطوط غير مرسومة، إلا أن الروح كانت مكتملة. كانوا يلعبون من أجل المتعة، من أجل الوطن، من أجل الجماهير. لم تكن هناك عقود رعاية بالملايين، ولا وكلاء أعمال، ولا نقل تلفزيوني احتكاري، بل كانت هناك أعين مليئة بالشغف، وقلوب تلهج بدعوات النصر، ومباريات تُشاهد على شاشة وحيدة، بوضوح ضبابي، لكن بحبّ جارف.

ثمّ نقفز إلى عام 2025، إلى بطولة كأس الخليج السادسة والعشرين، التي استضافتها الكويت، وتُوِّج بها المنتخب البحريني. ورغم التنظيم الاحترافي، وتطور الملاعب وجودة البث، مضت البطولة كخبر عابر، لا يترك أثراً. حتى أسماؤها تتفلت من الذاكرة، ولا تخلّف صدىً، كما كان يفعل منصور مفتاح أو جاسم يعقوب.

الفرق بين الأمس واليوم، أن الماضي كان يحفر أثره بحرارته، أما اليوم فكل شيء يمرّ بارداً، بلا شغف.

المشكلة ليست في الملاعب، ولا في عدد الجماهير، بل في القيمة الداخلية للّعبة. فقد تحوّل اللاعب إلى موظف، والجمهور إلى متفرّج كسول، والحبّ إلى مصلحة. الناس اليوم يدخلون إلى نصف المباراة ثم يغادرون، بعضهم لا يذكر النتيجة، أو حتى الأسماء.

أما في زمن "الصقر"، فكان الأطفال يرددون أسماء اللاعبين كما يرددون أبيات الشعر. كانوا يحلمون بأن يصبحوا مثلهم، لا لأنهم مشهورون، بل لأنهم محترمون.

نعيش في زمنٍ طغى فيه الشكل على المضمون، وغلبت فيه السوق على القيم.

أصبح اللاعب يُقاس بما يتقاضاه، لا بما يُقدّمه، وأصبح الجمهور يقيّم المباريات على أساس الإعلانات، لا الإنجازات.

لا عجب أن نرى اليوم مدرّجات فارغة، وملاعب صامتة، وشاشات مكتظّة بالضجيج البصري، لكنها خالية من الروح.

وها نحن، في انتظار "الصقر" أن تعود... لا كمجرد مجلة، بل كرمز لذاك الزمن الذي لا يُعوّض. نحتاج إلى "الصقر" في زمن التحليق المنخفض، في زمن الهبوط الجماعي للذوق، والروح، والهوية. نحتاجها لتذكّرنا أنّ الرياضة ليست ترفاً، بل مرآة لمجتمع، ومؤشر على ما نعيشه من صعود أو انحدار.

ربما لا تعود المجلة كما كانت، لكن يكفينا أنها ما زالت في قلوبنا، صورةً مشرقة عن زمنٍ كان فيه الكلمة مسؤولية، والمباراة شرفاً، والحلم ممكناً. نُمسك بذكراها كما يُمسك العطشان بظلّ نبعٍ قديم، ونسأل أنفسنا بصمت: هل يمكن للعنقاء أن تولد من رمادها؟ وهل يعود "الصقر" إلى عنفوانه؟ أم أن الزمن الجميل كتب نهايته، وأغلق الأبواب خلفه؟

لم يكن اللقاء استعادة لذكريات وحسب، بل كان عزاءً حضارياً، ومرآةً تُريك ما خسرناه حقاً: الحماسة النقية، الشغف المجاني، والمبادئ التي كانت تُعلِّمنا أن نلعب الحياة كما تُلعب الكرة... من أجل الفكرة، لا الجوائز.

وفي عام 2024، وبعد توقّفٍ دام سبعة عشر عاماً، عادت فكرة "الصقر" إلى الصدور من جديد، بصيغة PDF، انطلاقاً من العاصمة النمساوية فيينا، عن "المركز العربي للإعلام والثقافة". صدر منها ستة أعداد فقط، ثم توقفت مجدداً عن الصدور نهائياً بسبب شُحّ الإمكانيات المادية، بالرغم من استقطاب أغلب محرري المجلة في عصرها الذهبي.

نعود لنؤكد أنَّ اختيارنا لهذا الاسم لم يكن عبثاً، فهو شاهد على زمنٍ جميل كانت فيه "الصقر" تحتل مكانة مرموقة، ولعبت دوراً بارزاً في الرياضة العربية.

ما يهمّنا هو مشاركة كل من يُدرك أن لمجلة "الصقر" مكانة خاصة في قلب كل من عاش الفترة التي حلّقت فيها، ولا يزال القارئ العربي يعيش ولادتها من جديد وينتظر عودتها.

لقد حاولنا أن نجتهد ونقدّم ما يُرضي قارئنا الكريم، رغم تواضع الإمكانيات.

"الصقر" كانت وستبقى بمثابة جامعة رياضية متخصصة، تسعى إلى تزويد القارئ بكل جديد في عالم الرياضة، وتنقل الأحداث لمتابعيها المحبين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.