: آخر تحديث

موت الموت: ميلاد الخلود الرقمي

1
1
1

لم يكن الموت يوماً حدثاً عارضاً في مسيرة الإنسان، بل هو التحدي الأبدي الذي شكّل الوعي، وصقل الروح وألهب الخيال.

كل حضارة وكل ديانة وكل فلسفة، سعت إما إلى تفسيره أو إلى مهادنته أو إلى تجاوزه، لكنه ظل رغم كل محاولات الترويض، سيد الحقيقة ومفجّر الأسئلة الكبرى. شخصياً أرى أن الإنسان في العصر القادم لن ينشغل بفهم الموت، بل سيسعى إلى اغتياله.

نعم، سنعيش في مرحلة زمنية يُحاك فيها مشروع جريء، مذهل، وربما مرعب، ألا وهو قتل الموت نفسه.

والبديل؟ هو الخلود الرقمي الذي سيحررنا من الجسد والزمن، لكنه سيسرق منا جوهر إنسانيتنا.

الفكرة ليست أسطورة ولا خيالاً روائياً، بل مشروع علمي فلسفي حقيقي تتسارع إليه مختبرات وادي السيليكون، ومؤسسات أبحاث الدماغ، والذكاء الاصطناعي، وعمالقة التكنولوجيا. تتلخّص في محاولة تحميل الوعي البشري، بذاكرته وشخصيته وتاريخه ومشاعره، إلى بيئة رقمية تتيح له الاستمرار ما بعد موت الجسد البيولوجي. ليست نسخة رمزية ولا مجرد تخليد لاسم أو صورة، بل (أنا) كاملة، واعية، مستمرة، تعيش في سحابة من البيانات… إلى الأبد.

ما الذي يدفع البشر إلى هذا الحلم الثوري؟ إنه الخوف في جوهره، نعم، الخوف من العدم، من النسيان، من التلاشي!

إقرأ أيضاً: جزيرة سامناو: حيث تبدأ الحياة من جديد

لطالما أراد الإنسان أن ينجو من حتمية النهاية، فشيّد الأهرامات، ونحت الأساطير، وكتب الشعر، لكن هذه المحاولات لم تكن سوى رسائل إلى المستقبل، لا بدائل للحياة. اليوم، للمرة الأولى، لا يريد الإنسان فقط أن يُذكر… بل أن يبقى.

الخلود الرقمي يقترح شكلاً من البقاء يُنهي الحاجة إلى الجسد، بل إلى الزمن نفسه. ففي بيئة افتراضية، لا يشيخ الكود، ولا تضعف الذاكرة، ولا يصيبك المرض. يمكنك أن تعيش آلاف السنين، أو إلى ما لا نهاية، تتحاور مع آخرين، تصنع عالمك، تبرمج رغباتك، تُعيد خلق ذاتك كما تشاء. فكرة مغرية… لكنها تطرح سؤالاً خانقاً: هل الوجود المستمر يعني الحياة؟ وهل يمكن لخلود بلا موت أن يكون ذا معنى؟

الموت، رغم قسوته، هو الذي يمنح اللحظة قيمتها. أن تعلم أنك فانٍ، هذا هو ما يجعل نظرة الحب ثمينة، والمسامحة غالية، والوداع محمّلاً بالدموع. إننا نحب لأننا نعلم أن النهاية ستأتي، ونصنع لأن الزمن محدود، ونتأمل لأن الدهر ليس لنا. حين يُلغى الموت، لا يعود هناك عجل في الحب، ولا حاجة للعفو، ولا شغف للإبداع… فكل شيء يمكن تأجيله إلى الأبد.

إقرأ أيضاً: 13 لغماً تحت أقدام عبد الملك الحوثي

ثم، ما الذي يبقى من الإنسان حين يتحوّل إلى بيانات؟ أيّ جزء من الذات يُنقَل؟ هل نحن أفكارنا فقط؟ مشاعرنا؟ ذاكرتنا؟ وهل الوعي كافٍ ليكون الشخص هو نفسه؟ لو استنسخنا ذاكرتك كلها ووضعناها في عقل رقمي، هل يكون هذا الكيان الجديد (أنت) فعلاً، أم مجرد شبح إلكتروني يتقمصك؟ ومَن يملك حق السيطرة على هذا الكائن؟ أنت؟ شركتك؟ الدولة؟

الخلود الرقمي قد لا يكون تحرراً من الموت بقدر ما هو دخولٌ إلى عبودية جديدة، حيث يُخزن وعينا في سحابة قابلة للحذف، أو البيع، أو الاختراق. أنت لا تموت، لكنك قد تُمسح.

المأساة الكبرى لا تكمن في موت الموت، بل في موت الفقد. الفقد كان الجرح الذي جعلنا نكتب الشعر ونبني القبور ونخترع الطقوس. حين تفقد، تتألم، فتتعلم، فتتغير. أما في العالم الرقمي، لا يوجد فقد، فقط نسخة احتياطية، واستعادة بنقرة واحدة. وهكذا تموت الدهشة، وتنقرض الحسرة، ويندثر النضج. نحن لا نكبر لأن السنوات تمرّ، بل لأن الأحباب يغيبون، والجراح تتركنا نازفين أمام الحقيقة. من دون ألم الفقد، أي نوع من الكائنات نصبح؟

ربما لن يكون الخلود الرقمي استمراراً للحياة… بل موتاً من نوع آخر: موتُ الدهشة، والندم، والتغيّر. موتُ الصمت، حين لا يكون هناك ليل تنام فيه، ولا جسد يرهقك. موتُ المفاجأة، حين تعرف كل شيء عن نفسك وعن العالم. الموت الذي يرحل فيه الموت، فيتركك وحيداً إلى الأبد… تتنفس بلا رئتين، وتفكر بلا عقل.

إقرأ أيضاً: الإشعاع الخفي: قتل صامت دون أثر

ختاماً… لا أحد ينكر أن الخلود حلم قديم. لكن في هذا الحلم الجديد، حيث تتحول الحياة إلى شيفرة، قد نكسب زمناً… ونفقد الزمن. قد نُخَلَّد… ولكن كنسخة بلا أصل. نسخة تعرف كل شيء، لكنها لا تشعر بأي شيء. نسخة لم تفشل، ولم تبكِ، ولم تقع ثم تنهض، بل عاشت مستقيمةً كالخط الرقمي… بلا عثرات، بلا قصص، بلا بشر.

موت الموت، كما يبدو، ليس خلاصاً بل نهاية الحاجة إلى الغفران. وفي عالم لا حاجة فيه إلى الغفران، لا حاجة فيه إلى القلب.

فهل حقاً نريد أن نعيش إلى الأبد… إن لم نعد نعرف لماذا نعيش؟

وهل الخلود يستحق أن ندفن في مقابره… آخر ما تبقى من إنسانيتنا؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.