: آخر تحديث

حماية الدروز في سوريا: شماعة إسرائيلية جديدة لضمان الهيمنة

2
2
2

بعد إسقاط النظام السوري السابق، نشأت تغيرات كبيرة في موازين القوى داخل سوريا، وبرزت إسرائيل في سياق جديد، حيث أصبحت تدخلاتها العسكرية في الأراضي السورية تحمل أهدافًا لم تعد ذات صلة بمجابهة إيران وميليشياتها الشيعية التابعة لها. غداة إسقاط الطغمة السابقة شنت إسرائيل هجمات واسعة النطاق على مواقع وتحصينات ومخازن أسلحة الجيش السوري المنحل. كان تبريرها خشيتها من وقوع هذه الأسلحة بيد التنظيمات الإسلامية التي أسقطت النظام. كان الخطاب الإسرائيلي يركز على حماية حدودها وأمنها، ثم تطور الخطاب بعد ذلك إلى "حماية الدروز" الذي تبنته إسرائيل. في الحالتين فإن هذه الهجمات المستمرة التي تدينها الدول العربية ودول كثيرة من العالم ليست سوى أداة لتمرير مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وتعكس محاولاتها للهيمنة على الوضع السياسي والأمني في جنوب سوريا وكذلك تصدير المشاكل الداخلية التي تواجهها الحكومة اليمينية.

إسرائيل: مساعٍ لتثبيت واقع جديد في الجولان
قبل إسقاط النظام السابق، كان الخطاب الإسرائيلي يركز على منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا، وتحديدًا قرب حدود الجولان، حيث كانت إسرائيل تخشى من تحول الأراضي السورية إلى نقطة انطلاق لهجمات محتملة عبر الجماعات المسلحة المدعومة من إيران وحزب الله. في تلك الفترة، كانت الضربات الإسرائيلية تركز على تقويض خطوط إمداد الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، الذي كان يشكل تهديدًا للأمن الإسرائيلي في مناطق الشمال. لكن مع إسقاط النظام، اختفت هذه التهديدات بشكل فعلي، حيث تم القضاء على وجود حزب الله وحلفائه الإيرانيين على الأراضي السورية.

لكن إسرائيل، التي فقدت ذريعة وجود التهديد الإيراني، أصبحت أكثر عدوانية وشراسة في ضرباتها الجوية، مستهدفة أسلحة الجيش السوري السابق، ومواقعه، وعتاده الثقيل التي كانت لا تمسها في ضرباتها التي كانت تنفذها في ظل النظام السابق! وهذا يشير إلى أن إسرائيل، كانت ضامنة أن ذلك الجيش في ظل النظام السابق لا يشكل لها أي تهديد، ورغم بقاء عامل عدم تشكيل قوات الحكومة الحالية العسكرية أي تهديد لإسرائيل إلا أنها أصبحت تهدف، من خلال تلك الضربات العسكرية، إلى ضمان مصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل.

أهداف إسرائيل الاستراتيجية في سوريا
من خلال عدوانها العسكري المستمر على سوريا، تسعى إسرائيل إلى تثبيت واقع أمني دائم في الجنوب السوري من خلال السيطرة على هضبة الجولان والمنابع المائية وإقامة «منطقة عازلة» تحمي عمقها الاستراتيجي. كذلك تعمل على تأجيج الصراعات المحلية وترسيخ نفوذ فصائل موالية لها تمهيدًا لشراكات اقتصادية وإعادة إعمار يخدم مصالحها الإقليمية. من خلال هجماتها العسكرية واحتلالها لأراضٍ سورية جديدة، تريد تحقيق التالي:

- تثبيت الواقع في هضبة الجولان
في أعقاب إسقاط النظام السوري السابق، تعمل إسرائيل على ترسيخ واقع استراتيجي جديد في هضبة الجولان عبر إقامة «منطقة عازلة» تمتد من جنوب دمشق إلى القنيطرة ودرعا، ما يعزز عمقها الدفاعي ويحد من قدرة أي قوة معادية على الاقتراب من حدودها. وتسعى أيضاً إلى تحصين مرتفعات الجولان ضد أي هجوم خارجي وتثبيت ضمها الدائم كأمر غير قابل للتفاوض.

- السيطرة على الموارد المائية
الجولان يضم منابع مياه حيوية للأمن الإسرائيلي، وهي تسعى إلى تثبيت هيمنتها على الموارد المائية في الجنوب السوري، في الجولان والقنيطرة ودرعا والسويداء، حيث تنتشر ينابيع ذات أهمية استراتيجية مثل ينابيع بانياس التي تغذي نهر الأردن، وينابيع نهر اليرموك في درعا، وعين العبد قرب المزيريب، وعين القنية على أطراف السويداء. تمثل هذه الينابيع مصادر مائية حيوية لسوريا، لكن إسرائيل تريدها جزءًا من أمنها المائي وتسعى لمنع أي مشاريع سورية مستقبلية قد تقلّص من تدفق المياه نحو بحيرة طبريا، ما يفسر سعيها إلى الإبقاء على هذه المناطق تحت رقابة مشددة أو ضمن منطقة عازلة تمنع سيطرة الدولة المركزية السورية.

- الحفاظ على "الفوضى المخططة"
تحرص إسرائيل على إبقاء سوريا في حالة "فوضى مخططة"، أي في وضع صراع دائم منخفض الوتيرة، لا يسمح بقيام جيش وطني موحد وقوي قادر على استعادة المبادرة أو تهديد حدودها. في الوقت نفسه، تعمل على منع سيطرة أي تشكيلات مسلحة خارجة عن سيطرة النفوذ الإقليمي أو الدولي قد تتحول لاحقًا إلى قوة غير قابلة للاحتواء. هذا التوازن الدقيق بين الفوضى والانهيار الكامل يُمكّن إسرائيل من الحفاظ على حدود «متحركة» تخضع لرقابتها الاستخباراتية، ويمنحها قدرة على التدخل عند الحاجة دون الغرق في مواجهة شاملة، كما يكرّس عجز الدولة السورية عن فرض سيادتها أو استعادة دورها كلاعب إقليمي.

- زرع بؤر نفوذ محلية
تعتمد إسرائيل في استراتيجيتها على زرع بؤر نفوذ محلية تابعة لها أو على الأقل متعاونة معها، عبر بناء علاقات سرية، مع فاعلين محليين في جنوب سوريا. فهي غضت الطرف سابقا عن مجموعات محلية سنية، مثل بعض الفصائل السابقة في "الجيش الحر" التي خضعت لاحقًا لمصالحات برعاية روسية، وبعض التشكيلات العشائرية أو المجتمعية التي كانت تسعى لحماية مناطقها من تمدد النظام أو الميليشيات الإيرانية. كما تسعى إسرائيل حاليا لنسج علاقات مع فاعلين دروز في جبل العرب والسويداء، ضمن سياسة تواصل هادئ بعيدًا عن المؤسسات الرسمية. هذا التمكين المحلي يسمح لها مستقبلاً بإبرام تفاهمات أمنية أو حتى سياسية، دون الحاجة للاعتراف بشرعية النظام السوري القائم أو التفاوض معه، مما يرسّخ واقعًا مجزأً يسهل التحكم به ويضعف إمكانية عودة الدولة المركزية إلى الجنوب السوري بقوة.

- التمهيد لاقتصاد إقليمي جديد
في خلفية هذه الأهداف، تأمل إسرائيل في فرض نفسها كلاعبٍ رئيسيِّ في الاقتصاد السوري الجديد واسع الاحتياجات، والمليء بالفرص الاستراتيجية البعيدة والمتوسطة والقصيرة المدى، سواء عبر فتح معابر اقتصادية أو التلاعب بملفات إعادة الإعمار الضخم حتى تحقق شروطها. هذا التوجه يهدف إلى توسيع نفوذها الإقليمي بشكل مستمر، مستفيدة من الضعف الداخلي السوري. ستنهي إسرائيل تدخلاتها إذا فرضت شروطها الكاملة على الإدارة الجديدة في دمشق بما فيها انضمامها إلى الاتفاقيات الإبراهيمية أو حتى توقيع اتفاق سلام يُحيل الوضع النهائي في هضبة الجولان السورية المحتلة إلى مفاوضات أبدية. 

خطاب "حماية الدروز" كذريعة جديدة 
بعد إسقاط النظام السابق وغياب حزب الله مع ميليشيات إيران الأخرى، ومن أجل تنفيذ أهدافها التي مرّ ذكرها، تبنّت إسرائيل خطاب "حماية الدروز" كأداة جديدة لتبرير تدخلاتها العسكرية في سوريا. هذا الخطاب لا يعكس بالضرورة رغبة حقيقية في حماية الأقلية الدرزية في سوريا، بل هو أداة سياسية تتوسل الدبلوماسية، تسعى من خلاله إلى تحقيق عدة أهداف:

- تبرير الضربات العسكرية
تعلن إسرائيل عن غاراتها على مناطق متفرقة سوريا، بعضها في وسط سوريا وبعض الآخر في الساحل السوري، مصرحة علناً بأنها "ضربات تحذيرية" لحماية الدروز من "الميليشيات المعادية" رغم بعد كثير من المناطق التي قصفتها عن حدود المناطق التي يتواجد فيها السوريون الدروز. هذا الخطاب يتيح لإسرائيل أن تتدخل في الأراضي السورية تحت غطاء أخلاقي، رغم أن وجود التهديدات ضد الدروز في الواقع كان ضئيلًا بعد سقوط النظام السابق.

- الاستناد إلى الروابط التاريخية
إسرائيل تروج لعلاقة جزء من مواطنيها المذهبية والأسرية، سواء من دروز فلسطين المحتلة أو دروز في الجولان المحتل، مع الدروز السوريين، لتبرير تدخلها العسكري، وتستحضر خطاب "حماية إخوتنا الدروز" لتعزيز روايتها أمام الرأي العام، رغم أن الحكومات الإسرائيلية السابقة مارست ضغوطًا عقابية على المجتمعات الدرزية في الجولان، ولم تلتزم بحمايتهم في العديد من المناسبات.

- امتصاص ضغوط الداخل
عندما اندلعت الاشتباكات مؤخرا، بين فصائل مسلحة سورية وأخرى درزية في مناطق ذات كثافة درزية كجرمانا وصحنايا بريف دمشق، وأسفرت عن سقوط ضحايا مسلحين من الجانبين وكذلك بعض المدنيين، خرج دروز إسرائيل في احتجاجات تطالب بحماية أبناء طائفتهم. سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى توظيف هذه التحركات لامتصاص الغضب الداخلي، دون أن يترتب على ذلك أي تغيير فعلي في سياستها تجاه الملف السوري.

رفض "الحماية المسمومة": موقف وطني في وجه التوظيف الإسرائيلي
خلافًا لما تروّج له إسرائيل، شددت النخب الثقافية والسياسية الدرزية، إلى جانب القيادات الروحية للطائفة في سوريا، وعلى رأسهم شيوخ العقل في السويداء (باستثناء صوتٍ واحد)، على أن موقفهم راسخ في الانتماء إلى مشروع وطني سوري مستقل بتصريحات وبيانات وخطابات ولقاءات معلنة رغم إيضاح مطالبهم من السلطة الجديدة. وقد أكدوا مرارًا رفضهم لأي تدخل أجنبي، معتبرين أن مزاعم إسرائيل بحماية الدروز ليست سوى ذريعة لفرض نفوذها في الجنوب السوري، وزعزعة استقرار البلاد بما يخدم أجندتها الأمنية والسياسية.

يأتي ذلك رغم وجود فئات أو أفراد أو فصائل درزية مسلحة مرحبة بهذا التدخل وداعية له، وعلى خلفية مخاوف حقيقية أو متوهمة من انتهاكات من فصائل مسلحة منضوية تحت ظل السلطة الجديدة، وأخرى خارجة على القانون وفق التصريحات الرسمية. كما أننا يجب أن لا نغفل العلاقة بين الدروز وجوارهم السني التي تحدث فيها توترات واشتباكات بين حين وآخر كما حدث في الاشتباك مع قبائل بدو السويداء وبعض الفصائل في درعا. كما يجب أن لا نغفل موجة التحريض الطائفي ضد الدروز بعد تسجيل مختلق منسوب إلى أحد رجال الدين الدروز، وفبركة فيديوهات تشير إلى علاقة دروز السويداء بإسرائيل. 

لا يمكن لأي قارئ للوضع المعقد في علاقة السلطة الجديدة بالسويداء والعلاقة القائمة بين بعض الفصائل الدرزية وإسرائيل عبر دروز إسرائيل أن يغفل التناقضات الداخلية بين الفصائل الدرزية المسلحة نفسها. تناقضات وصراعات تتعلق بفرض الهيمنة داخل المحافظة، مما يدفع بعضها للاستقواء بإسرائيل تحت تعابير "التدخل الدولي"، كالمجلس العسكري والفصائل التي تتبع الشيخ الهجري، لمواجهة الفصائل الأخرى التي ترغب بالانضمام تحت لواء الحكومة الوطنية وعلى رأسها الفصيل الذي يقوده ليث البلعوس (نجل القائد المؤسس لحركة رجال الكرامة وحيد البلعوس الذي اغتيل في العام ٢٠١٥) وفصائل أخرى متحالفة معه. كل ذلك يصب في المصلحة الإسرائيلية وقدرتها على استمالة بعض الراغبين أو حتى المتعاونين مع تدخلها، لكنه لا ينفي أن عموم الدروز يرفضون وصاية إسرائيل أو حمايتها أو تدخلها في الشأن السوري تحت ذريعة حمايتهم.

والخلاصة؛ إن إسرائيل، في سعيها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، قد استخدمت خطاب "حماية الدروز" كأداة لتمرير تدخلاتها العسكرية والسياسية، دون أن تكون هذه التدخلات نابعة من رغبة حقيقية في حماية الأقلية الدرزية. إن هذا الخطاب لا يعدو كونه أداة لتبرير استمرار السيطرة الإسرائيلية على الجولان وفرض مصالحها الأمنية والاقتصادية في المنطقة. وفي النهاية، يبقى الدروز في سوريا رافضين التدخلات الإسرائيلية، مؤكدين على أن المشروع الوطني السوري هو الذي يضمن حمايتهم ويجعلهم في منأى عن أي أجندات خارجية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.