في خضم التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي تمزق سوريا، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: ما الذي يدفع قوى خفية أو ظاهرة إلى محاولة نزع الهوية الوطنية الجامعة عن السوريين وتأجيج نار الطائفية بين مكونات شعبها؟ إن فهم هذه الدوافع ليس مجرد ضرورة أكاديمية لتحليل ديناميكيات الصراع، بل هو خطوة حاسمة نحو تجاوز هذه المرحلة الدقيقة ورسم مستقبل لسوريا كوطن موحد ينعم بالسلام والازدهار.
لم تقتصر الآثار المدمرة للنزاع السوري على الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات، بل امتدت لتنال من أعمق جذور الهوية الوطنية الجامعة. ففي غمرة الصراعات والتقسيمات المتزايدة، تبرز محاولات ممنهجة تهدف إلى تفكيك هذا النسيج الوطني المتماسك من خلال استراتيجية خبيثة قوامها تفتيت الهوية الجامعة. تتجلى هذه الاستراتيجية بوضوح في الاستغلال الانتهازي للنزاع الراهن لتعزيز هويات فرعية ضيقة، سواء كانت تستند إلى أسس إثنية أو دينية أو حتى مناطقية، ويجري تغذية هذه الهويات الفرعية وتضخيمها بشكل مقصود لتتجاوز في أهميتها الانتماء الوطني السوري الأوسع.
بالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ تركيز مكثف على الانقسامات التاريخية، الحقيقية منها والمصطنعة، داخل المجتمع السوري، حيث يجري العمل على تضخيمها وتقديمها كصدوع عميقة يستحيل رأبها. تهدف هذه الممارسات إلى غرس بذور الشك والانقسام بين أبناء الوطن الواحد وتقويض أي شعور بالوحدة والتضامن. علاوة على ذلك، وعلى صعيد الرموز والمؤسسات الوطنية التي لطالما مثلت مظلة جامعة للبلاد، نشهد محاولات مستمرة لإضعافها وتقويض دورها، حيث يتم تشويه هذه الرموز وتفريغها من معناها الوطني، كما تُهمش المؤسسات التي كان من المفترض أن تعزز الوحدة الوطنية وتتماسك بها. ونتيجة لذلك، فإن هذه المحاولات الممنهجة لتجريد السوريين من وطنيتهم وتمزيق هويتهم الجامعة تمثل تهديدًا وجوديًا للكيان السوري وتسعى إلى إضعاف قدرة الشعب على تجاوز محنته واستعادة وحدته وسلامة أراضيه.
تُعد محاولات إعادة صياغة التاريخ السوري المشترك إحدى أبرز الوسائل المستخدمة في تجريد السوريين من إحساسهم بالوطنية الجامعة. فبدلًا من استحضار رواية تاريخية تحتفي بالتنوع والوحدة، تسعى جهات فاعلة إلى إعادة كتابة الماضي بطريقة تخدم مصالحها الضيقة وتعمق الانقسامات القائمة. على سبيل المثال، يتجلى هذا التشويه في تجاهل أو التقليل من أهمية المراحل التاريخية التي شهدت تلاحمًا وتعاونًا بين مختلف مكونات الشعب السوري. في المقابل، يُمارس نوع آخر من التلاعب الممنهج بهدف إضعاف الهوية الوطنية السورية عبر تشويه الذاكرة التاريخية المشتركة. فبدلًا من بناء سردية وطنية جامعة تستلهم دروس الوحدة والتكاتف عبر العصور، يجري العمل على تفكيك هذا النسيج من خلال إعادة تفسير الأحداث التاريخية بما يخدم أجندات تهدف إلى تمزيق وحدة البلاد. يتجلى ذلك في التعتيم على فترات التعايش السلمي والعمل المشترك بين أطياف الشعب السوري المختلفة، بينما يتم تضخيم وتسليط الضوء بشكل مبالغ فيه على محطات الصراع والاقتتال الداخلي مع التركيز الانتقائي على فترات النزاع لتبرير الانقسام وتعزيز الانتماءات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
تتخذ محاولات تجريد السوريين من وطنيتهم أشكالًا متعددة، ويبرز من بينها الاستغلال السياسي والاقتصادي كأداة فاعلة في هذا المسعى. يتجلى هذا الاستغلال في الاستخدام الانتهازي للخطاب الوطني، حيث يجري تلوين المفاهيم الوطنية بصبغة فئوية ضيقة واستغلالها لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية تخدم مصالح جهات محددة على حساب المصلحة الوطنية الشاملة. علاوة على ذلك، يتجسد هذا التجريد في تهميش أو إقصاء فئات معينة من السوريين من المشاركة الفاعلة في بناء مستقبل بلادهم، ويتم استبعادهم أو تهميش آرائهم وقدراتهم، مما يخلق شعورًا بالانفصال وعدم الانتماء ويضعف النسيج الوطني المتماسك. الأكثر خطورة من ذلك هو ربط الولاء للوطن بشروط أو تنازلات تخدم مصالح جهات معينة، ليصبح الانتماء مشروطًا بالخضوع أو التوافق مع أجندات خاصة، وهو ما ينتزع من الوطنية معناها الأصيل القائم على الحقوق والواجبات المتساوية لجميع المواطنين. بالتالي، تقوض هذه الممارسات أسس المواطنة الحقيقية وتساهم في تفكيك الهوية الوطنية الجامعة.
إنَّ تفكيك وحدة الشعب السوري عبر بذر بذور الطائفية لم يكن محض صدفة، بل إستراتيجية محكمة تخدم غايات متعددة. فعلى صعيد النفوذ الخارجي، يمثل إضعاف الدولة السورية من خلال تمزيقها داخليًا هدفًا يسعى إليه الكثيرون لتسهيل اختراقها والتحكم بمواردها ومصيرها. وتُستغل الانقسامات الطائفية كذريعة لتبرير التدخلات الخارجية وصناعة مناطق نفوذ تخدم مصالح إقليمية ودولية محددة. أما على الصعيد الداخلي، فقد مثّل الخطاب الطائفي أداة فعّالة لتعبئة قواعد شعبية لفئات معينة وإقصاء الخصوم السياسيين عبر ترويج اتهامات طائفية مغرضة. علاوة على ذلك، عملت هذه الإستراتيجية على تأخير أي حلول سياسية جامعة، حيث أن استمرار حالة الانقسام يخدم مصالح قوى مستفيدة.
لقد أفضى تقويض الهوية الوطنية السورية وتكريس الانقسامات الطائفية إلى نتائج كارثية على المستويات كافة. فعلى الصعيد الاجتماعي، تفكك النسيج المجتمعي وتآكلت الثقة بين أبناء الوطن الواحد، مما غذى دوامة العنف والصراعات الأهلية وجعل تحقيق المصالحة الوطنية والتعافي أمرًا بالغ الصعوبة. أما على صعيد الدولة ومؤسساتها، فإنه وبعد مرور خمسة أشهر على تولي السلطة الجديدة مقاليد الحكم، لم يثبت بعد قدرتها الكاملة على إنفاذ القانون، وتعددت الولاءات المتضاربة، مما عرقل جهود إعادة الإعمار والتنمية ورفع العقوبات عن الشعب السوري. بالإضافة إلى ذلك، فإن مستقبل سوريا ككيان واحد بات مهددًا باحتمالية التقسيم أو تبني أنظمة فدرالية تقوم على أسس طائفية أو إثنية، وهو ما يُنذر باستمرار حالة عدم الاستقرار والصراع وتفاقم الأزمة الإنسانية وهجرة الكفاءات.
إنَّ محاولات تجريد السوريين من انتمائهم الوطني الأصيل وزرع بذور الفتنة الطائفية تنذر بعواقب وخيمة تهدد كيان المجتمع السوري برمته، ومواجهة هذا الخطر الوجودي تقع على عاتق السوريين جميعًا مسؤولية تاريخية تتمثل في التمسك الراسخ بهويتهم الوطنية الجامعة، تلك الهوية الثرية التي تتجاوز الانقسامات الضيقة وتستمد قوتها من تاريخ مشترك وآمال مستقبلية واحدة. إن تجاوز مرارة الماضي والانطلاق نحو غدٍ مشرق يتطلب إعلاء قيم الحوار البنّاء والتسامح العميق والمصالحة الشاملة. فمن خلال هذه الأسس المتينة فحسب، يمكن بناء سوريا موحدة ومزدهرة تحتضن جميع أبنائها وتضمن حقوقهم وكرامتهم. ختامًا، لا يمكن إغفال الدور المحوري للمجتمع الدولي في هذه اللحظة الحاسمة؛ فدعم جهود الوحدة الوطنية في سوريا ليس مجرد واجب إنساني بل ضرورة حتمية لتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي، وتمكين السوريين، بتضافر جهودهم الصادقة من الداخل والخارج، من استعادة وطنهم وبناء مستقبل يليق بتضحياتهم وتطلعاتهم.