: آخر تحديث

روسيا... الابن الأوروبي الضال

3
3
4

حتى قبيل انعقاد الاجتماع المقرر اليوم بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والزعيم الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، تضاربت الآراء حول الغرض منه ونتائجه المحتملة.

رفض منتقدو ترمب - أي المشتبه بهم المعتادون مثل صحيفة «نيويورك تايمز» وقناة «سي إن إن» - اللقاء، ووصفوه بأنه مجرد فرصة أخرى لالتقاط الصور؛ لإضافة لمسة فنية إلى شخصية ترمب، وتلميع صورته بوصفه صانع سلام يستحق جائزة «نوبل».

زعم المعنيون بشعار «لوم أميركا أولاً» - الذين يمثلهم في هذه الحالة البروفسور جيفري ساكس من جامعة هارفارد - أن ترمب سوف يحاول الحصول على جزء كبير من النفط والغاز الروسي لصالح كبار رجال الأعمال بالولايات المتحدة.

أما جوقة المعارضين الأوروبيين، بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فأنشدوا أغنيتهم «ترمب ينحني لبوتين» من خلال استبعاد الاتحاد الأوروبي من هذا اللقاء في ألاسكا الجليدية.

لكن حتى وإن صحّت كل هذه التأكيدات، فلا شك أن القمة تُمثل حدثاً مهماً، ولو لسبب واحد فقط وهو أن الجانبين كليهما خفف من مواقفه المتصلبة. فقد أصر ترمب على أن بوتين يجب أن يوافق أولاً على وقف الحرب قبل ترتيب أي لقاء مزمع. وهذا لم يحدث. بل على العكس، زاد بوتين من إيقاع ووتيرة سيمفونية حربه لسحق أوكرانيا.

ومن جانبه، جعل بوتين القمة مشروطة بشرطين ضروريين: تخفيف العقوبات الاقتصادية، ووقف الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا. ومرة أخرى، لم يحدث أي من هذين الأمرين؛ إذ فرض ترمب عقوبات أكثر صرامة على روسيا، ثم زوّد أوكرانيا بأسلحة متطورة. بعبارة أخرى، رفع كل من الرجلين من رهاناته في مقامرته على أوكرانيا التي مزقتها الحرب. كل ذلك قد يرسم صورة قاتمة لأي نتيجة مفيدة قد يتمخض عنها لقاء ألاسكا.

لكن بالنظر من زاوية أخرى، قد لا تبدو الأمور بهذا القدر من اليأس. بادئ ذي بدء، بقبول بوتين دعوة ترمب إلى ألاسكا فإنه يقر بوضع الولايات المتحدة كقوة لا غنى عنها في السياسة العالمية. بمعنى آخر، هو يعترف بأن الأيام التي كانت تُعقد فيها القمم الأميركية والسوفياتية في أماكن محايدة للتأكيد على تكافؤ مكانتهما الدولية قد ولّت. وعلى الرغم من استعراض القوة من قبل أتباعه مثل ديمتري ميدفيديف، يعلم بوتين أن الحرب لا تسير على ما يرام بالنسبة له.

من ناحية أخرى، لا بد أن ترمب قد أدرك أن روسيا لا تزال تحظى بالمرونة الاقتصادية والعزم السياسي بما يكفي لعدم الاستسلام. كما أدرك أنه لا يمكنه توقع أن ينسحب بوتين ببساطة من أوكرانيا من دون أن يأخذ شيئاً معه. ولهذا السبب يتحدث ترمب عن «تنازلات إقليمية من كلا الجانبين»، وهو يعلم أن عبارة «كلا الجانبين» لا تخدع أحداً.

وهكذا، نحن أمام معضلة أخرى من معضلات «الأرض مقابل السلام» التي لم تنجح أبداً بوصفها حلاً دائماً للصراعات بين خصوم يُعدّ كل منهم تهديداً وجودياً للآخر.

ربما تكمن جذور الحرب الحالية في الفشل التاريخي لروسيا في حل أزمة الهوية لديها، والفشل الأوروبي في مساعدتها على مباشرة ذلك. منذ إعادة تنظيم أوروبا ما بعد الإمبراطورية بمعاهدات «وستفاليا»، شهدت القارة المضطربة تهديدين كبيرين: الهيمنة القومية الألمانية بقيادة نامسا (الإمبراطورية النمساوية المجرية) وبروسيا، ومنذ عام 1870 الرايخ الألماني الموحد من جهة، والقومية السلافية الشاملة بقيادة روسيا القيصرية، ثم السوفياتية لاحقاً، من جهة أخرى.

ولقد استُخدمت عبارة «الروس قادمون!» في وقت مبكر من القرن الثامن عشر، للإعراب عن رُهاب الأوروبيين مما أسماه ماركس «الهمج القادمون من الشرق». كما أن ونستون تشرشل لم يكن هو من ابتكر عبارة «الستار الحديدي»، بل كان الكاتب الألماني فرانز شوسيلكا في عام 1872.

لطالما تمزقت روسيا بين هويتين: الآسيوية والأوروبية. وعلى الرغم من أنها تلامس جزءاً متجمداً من المحيط الهادئ ولديها بعض الوصول إلى البحار المفتوحة عبر بحر آزوف، فإن روسيا لا تزال قوة حبيسة. وهذا هو السبب في أنها لم تنجح أبداً في بناء إمبراطورية تتجاوز امتدادها البري. فالقوى الأوروبية التي قسمت العالم إلى غنائم استعمارية في مؤتمر برلين، استبعدت روسيا خارج دائرة العائلة اللصوصية.

ومن المثير للاهتمام، أن روسيا لم تغزُ أوروبا أبداً، ولكنها تعرضت للغزو من قبل الجيوش السويدية والفرنسية والألمانية في عدد من المناسبات. ويتباهى الروس أيضاً بأنهم عملوا كحصن لأوروبا ضد «الخطر الأصفر» (الصين)، بينما كانوا يُقلصون من حجم الإمبراطورية العثمانية وإيران، وكلاهما كان منافساً إسلامياً لأوروبا المسيحية.

يشكو الشاعر ألكسندر بلوك في القرن التاسع عشر في قصيدة طويلة من أن الأوروبيين لا يُقدّرون ما فعلته روسيا من أجلهم كحارس طليعي للحضارة ضد «الجحافل الآسيوية». وهو يُهدد الأوروبيين في نهاية القصيدة قائلاً: «إذا كنتم لا تريدوننا وحاولتم إبعادنا... فسوف نعود على رأس تلك الجحافل».

في الأثناء ذاتها، فإن ما أصبحت عليه روسيا بعد بطرس الأكبر كان إلى حد كبير مشروعاً أوروبياً. ما كان يمكن لشخصيات مثل بوشكين، وليرمونتوف، وتولستوي، ودوستويفسكي أن تُوجد أو تُعرف لولا الوصول إلى الأدب الإنجليزي الفيكتوري والفرنسي. كما أن الموسيقى والرقص والرسم الروسي هي من نتاج الفن الأوروبي الذي بدأ بالتأثير البيزنطي.

وصمّم الإيطاليون مدينة بتروغراد، «فينيسيا الشمال»، وعكست موسكو العمارة الفرنسية في مبانيها. ومع ذلك، فإن روسيا - الابن الأوروبي الضال - تحمل ضغينة ضد الغرب مثل شخص يُعامل كـ«الخروف الأسود» في العائلة.

يرجع جزء من سبب سوء سلوك روسيا إلى الشعور بأنها مهما فعلت، فسوف تُعامل دائماً معاملة المنبوذة من قبل عائلة «الأمم المتحضرة». ففي الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي تحت رحمة التنفس الصناعي الطارئ، أبدى الرئيس جورج بوش الأب، ربما من دون قصد، ازدراءه عندما سأل: «كيف يتسنى لنا إنقاذ روسيا؟». كما أبدى الرئيس باراك أوباما صلفاً بيّناً عندما وصف روسيا بأنها «قوة إقليمية» لا تستحق اهتماماً خاصاً.

كل ذلك غذى الخطاب القومي السلافي الذي يضع روسيا في مواجهة الغرب. كان غزو أوكرانيا عرضاً من أعراض الفشل في إيجاد مكان مناسب للابن الأوروبي الضال. وإن ادعاء جيفري ساكس الزائف بأن بوتين غزا أوكرانيا لأنه خاف من انضمامها إلى حلف «الناتو» هو محض تضليل متعمد. فالأمة التي لديها نزاع حدودي مع أي من جيرانها لا يمكنها حتى التقدم بطلب للحصول على عضوية «الناتو».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد