: آخر تحديث

السياسي والمناضل وثقافة الدولة

4
3
4

مع تصاعد حدة الاشتباك في لبنان على سلاح «حزب الله»، لفتت الانتباهَ كثرةُ ترداد تعابير «النضال» و«المناضل» و«المبدئي». ونحن معتادون هذه التعابير منذ عقودٍ وعقود على ألسنة القوميين والاشتراكيين والحكام العسكريين وقادة التنظيمات المسلَّحة، ثم اعتنق التعبير بها الإسلامويون عندما يريدون تجنب المفردات التي صارت مثيرة مثل «الجهاد» و«المجاهدين». وفي الأزمنة الماضية كان المعني بهذه التعابير أن صاحب اللقب مارَس ويمارس العمل الوطني أو القومي أو الإسلامي بأساليب غير سياسية، كالعمل الحزبي أو العسكري أو الثوري أو الانقلابي، نأياً بنفسه عن العمل السياسي الذي كان يعني في أذهان النُخَب المتعلمة المساومات والتنازلات والفساد. فـ«سياسي تقليدي» يعني في الغالب في الأذهان المساوِمَ على المبادئ وغير الملتزم بنهجٍ مستقيمٍ في العمل لمصالح الشعب!

منذ 30 عاماً، وربما أكثر، سألت أحد السياسيين الذين برزوا أخيراً: لماذا هذا الهجوم غير المسوَّغ على قريبك السياسي الكبير الذي يحبه معظم المسلمين في لبنان؟ فضحك وقال: «لأنه سياسي محترف ويعيش من العمل السياسي ويتكسب منه (!)». فعلّق زميلٌ لنا كان جالساً معنا: «أسوأ الأمور أن تصبح السياسة مهنةً أو حرفة يكسب منها الإنسان رزقه». فقلت متردداً: «العمل السياسي المحترف في إدارة الشأن العام هو الذي ينتج وقد يصنع نجاحاً». وتابعت في حجاجية قد أعود إليها في ما بعد.

اللافت للانتباه أنّ محترفي السياسة في لبنان اليوم هم الذين يريدون تقليد الحزبيين والعقائديين. لقد ذكر ذلك عددٌ منهم في مقابلاتٍ وأحاديث، فهم يأبون أن يتفرد العقائديون الحزبيون بالنضال، بينما يظل الذين لا يحملون سلاحاً ولا يمارسون الصراخ الثوري سياسيين تقليديين خانعين منهمكين في المساومات والتنازلات!

نعم أذكر أنني قرأت في كتابٍ عن الحياة السياسية في الولايات المتحدة أن أقلّ الفئات شعبيةً هم «السياسيون والمحامون»، والاقتران بينهما في الذكر له دلالاته البعيدة.

اللبنانيون شديدو الفخار بأن بلدهم بلد حريات وعمل سياسي سلمي وفيه انتخابات منتظمة، لكنهم يخجلون من سياسييهم بسبب سمعة البعض السيئة. وهم في الوقت ذاته لا يحبون الميليشيات المسلَّحة التي عانوا منها الأمرَّين ولا يزالون يعانون. بينما يزعم المسلَّحون أنهم هم المناضلون وأصحاب المبادئ، والذين ضحوا في مواجهة إسرائيل. فالجديد في تطورات هذه النقائض الاصطلاحية والعملية أنّ «ثقافة» النضال والثوران لا تزال غرّارة إلى درجة أنّ أبناء العائلات السياسية العريقة اندفعوا في الإنكار على العقائدية التي يعدّونها زائفة، وساروا يؤثرون أن يطلقوا على أنفسهم لقب المناضل، بل قال أحدهم: أنا أريد أن أكون مناضلاً لا سياسياً (!) فالسياسة تقتضي الاحتراف، وهو أمرٌ غير مستحب؛ وهذه مسألة ثقافية أيضاً، فالمناضل محترف أيضاً ويمارس النضال ويرتزق منه، والفرق أنه نضالٌ ضد الدولة؛ فكرةً ومؤسساتٍ وعملاً سياسياً دؤوباً. وإنما عنيت أنّ هذه المسألة صارت في تاريخنا الحديث اللبناني والعربي «ثقافة»؛ بسبب قصر وسطحية تقاليد الدولة الحديثة. وأعرف هذا الإباء على العمل السياسي المحترف من جانب اثنين من رؤساء الحكومة في لبنان كانا ناجحين، وما كانا يسميان نفسيهما مناضلَين، بل يعدّان أنهما يؤديان عملاً وطنياً مؤقتاً وغير محترف، مع أنهما توليا الوزارة ورئاسة الحكومة مرات عدة! فصحيح أن البعض صار يأبى ألقاب النضال، لكنّ الأكثرين لا يحبون الاحتراف السياسي بسبب سمعته، رغم أنهم بالفعل كذلك.

كل عمل سياسي هو عمل من أجل الدولة. ونعرف أعمالاً قديمة جداً في «نصائح الملوك» أو «مرايا الأمراء»... بيد أن أول الأعمال المعروفة في سياسات الدولة هو محاورة أفلاطون السياسي أو رجل الدولة. والأدبيات السياسية لهذه الناحية كثيرة جداً، خصوصاً في القرن العشرين. وقد كان السوسيولوجي الألماني المعروف، ماكس فيبر (1864 - 1920)، يحسد الإنجليز والأميركيين على حياتهم الحزبية الديمقراطية بينما الحياة السياسية الألمانية لا تزال بيروقراطية. لكنه هو من جهةٍ ثانية كان يريد من السياسي المحترف أن تكون عنده أخلاق رسالةٍ، أو اعتقاد لمصلحة الدولة، فإذا توفرت، فيكون عليه أن يبحث عن طرائق ملائمة لإحقاق قناعاته يسميها فيبر: «أخلاق العمل».

من الطبيعي أن يُسميَ حاملُ السلاح ضد الدولة نفسَه مناضلاً، أما العاملون في الشأن السياسي فلا يحتاجون إلى سمعة النضال لكي يكونوا وطنيين أو أصحاب مبادئ. والأشهر المقبلة في سوريا ولبنان والعراق ستميّز بين من يظل مناضلاً ومن يصبح رجل دولة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد