يقول الثبيتي في رائعته تغريبة القوافل والمطر:
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ ..
القهوة، تلك الحبيبات السمراء التي تُسحق لتتحول إلى شراب أسود كثيف، لم تكن مجرد مشروب في الوجدان الإنساني، بل صارت رمزًا ثقافيًا وحضاريًا احتل مكانة خاصة في الأدب عبر العصور، فمنذ أن انتشرت في المشرق العربي، ارتبطت القهوة بالمجالس، والحوارات، والبوح، وباتت قرينًا للفكر والتأمل، حتى صارت حاضرة في النصوص الشعرية والروائية بوصفها أكثر من مجرد شراب، إنها طقس من طقوس المعنى، ورؤيا تجتاز المادي للروحي بكل مكوناتها الزمانية والمكانية.. ففي الشعر العربي الحديث، كثيرًا ما جاءت القهوة كرمز للحميمية والسكينة، ولحظات الصفاء التي يختلي فيها الشاعر بنفسه أو مع من يحب، لهذا جعل منها محمود درويش، على سبيل المثال، كيانًا شعريًا متكاملًا، يعبّر عن بداية النهار وطقس الانتماء إلى الحياة، وعن الانتظار الذي يحمل نكهة الألفة، فبدت لنا في قصائده أكثر من طعام أو شراب بدت لنا جسرًا بين الحواس والفكر، وعبورا من اللحظة المادية إلى اللحظة الروحية.. أما في النثر، فقد استخدم كثير من الروائيين القهوة كبنية سردية، ترمز إلى الحكاية ذاتها، أو تشكل خلفية لمشهد حواري، أو مدخلًا إلى استكشاف عوالم الشخصيات، فهي عند نجيب محفوظ، وعبر مقاهي الحارات رمز للتواصل الاجتماعي ومسرح لتصادم الأفكار، فالمقهى، حيث تفوح رائحة البن، يصبح فضاءً مفتوحًا لتبادل الآراء، وتشكيل مصائر الشخصيات، حتى تكاد القهوة أن تكون شخصية صامتة تراقب الأحداث، فرمزيتها تتجاوز المشهد الواقعي لتلامس الجانب الفلسفي، وهي بذلك سواء في الأدب الغربي أو الشرقي على السواء، تمثل لحظة التوقف في مجرى الزمن، لحظة يضع فيها المرء همومه على الطاولة، ويحتسي رشفة، كأنه يعيد ترتيب أفكاره وحياته، ففنجان القهوة يبدو لنا كدعوة للتأمل في مسار الذات، أو نافذة لقراءة الآخر، أو حيلة لإطالة زمن الحديث، ومن هنا تتخذ القهوة رمزًا للبطء الواعي في مواجهة تسارع الحياة، وللاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة التي تمنح الوجود نكهته.
كما ترتبط القهوة في الأدب بالذكريات؛ فهي تثير الحنين إلى بيت الأم، أو إلى لقاءات الأصدقاء، أو إلى حب قديم كان يبدأ أو ينتهي مع آخر رشفة، فالروائي التركي أورهان باموق أشار في أعماله إلى القهوة كعلامة على استمرارية العادات وسط التغيرات، وكأنها مرساة تحفظ للإنسان بعض ثوابته، وفي سياقات أخرى، قد تحمل القهوة دلالات متناقضة؛ فهي أحيانًا رمز للصحوة واليقظة الفكرية، وأحيانًا إشارة إلى القلق والسهر، في بعض القصص، يكون فنجان القهوة الذي يشربه البطل في منتصف الليل علامة على صراع داخلي، أو على فكرة لا تتركه ينام، وهكذا تتلون رمزية القهوة بحسب الإطار النفسي للشخصية والسياق السردي، وهي كذلك مساحة للقاء الثقافات، ففي النصوص الأدبية التي تناولت الاستعمار أو الهجرة، تصبح علامة على التداخل بين العوالم، إذ يجلس الشرق والغرب على طاولة واحدة، يحتسيان القهوة بطرق مختلفة، ويتبادلان المعاني والدلالات، وقد نجد هذا البعد في روايات الرحالة والمغتربين الذين استخدموا القهوة كأيقونة تجمع بين الهوية الأصلية والتجربة الجديدة، ويمكن القول إن القهوة في الأدب متلازمته الدائمة فهي نص داخل النص، لغة صامتة يتحدث بها الكاتب إلى القارئ دون أن يصرح، هي لحظة تتوقف فيها الحكاية لتستمع إلى نبض الراوي أو أنفاس الشخصيات، وقد تكون أيضًا نوعًا من التواطؤ الجمالي بين المؤلف والقارئ، حيث يعرف كلاهما أن وراء هذا الفنجان، عالمًا من المعاني والرموز، وهكذا، تظل القهوة في الأدب أكثر من مشروب يرافق القراءة أو الكتابة، إنها فضاء من المعنى يعكس علاقة الإنسان بزمنه، وبذاته، وبالآخرين، هي نكهة الكلمة حين تستوي على نار التأمل، ورائحة الحكاية وهي تُسكب في فنجان الحياة.