نسيء فهم مصطلح (السَّفر) في كثير من الأحيان عندما لا نلتفت إلى بُعده الفلسفي، والذي يتخطى في معناه مجرد عبور الحدود الدولية أو التنقل بين المدن، إذ هو في الحقيقة انفتاح على الذات وعلى الآخر في آنٍ واحد، أي إنه فعل فلسفي بامتياز. في السفر نمارس في البداية تحررًا رمزيًّا من الذات الثقافية نحو آخر مغاير، فنتحرر - مثلاً - من اللغة الأم، ومن الانتماء الضيق، ومن مركزية الثقافة الواحدة، أي أننا نعيش نوعًا من الهجرة الوجودية نحو فضاء مختلف تمامًا، فيحدث فينا كسرٌ للانغلاق وتوسيعٌ في الأفق، وتتحقق لنا رحلة شيقة مع المعرفة والنقد.
إنَّ الإنسان بطبيعته كائنٌ مسافر، دائم الترحال. وقد عبّر محمد حسن علوان عن هذا المعنى ببلاغة على لسان محيي الدين بن عربي، بطل روايته "موت صغير"، إذ قال: "المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كله سفرٌ في سفر، من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم". ومنذ فجر التاريخ، ارتبط الإنسان بالسفر، سواء كان ذلك بحثًا عن الطعام، أو الأمان، أو المعرفة، أو حتى المغامرة. وفي كل رحلة، كان يعود مختلفًا عمّا كان عليه، وكأن السفر يعيد تشكيله من الداخل في كل مرة.
نحن نسافر جميعًا عبر الطرق ووسائل الترحال نفسها، وربما إلى ذات المكان وفي ذات الزمان، غير أنّ كلاً منا يقوم برحلة مختلفة، وبطريقة مغايرة، وبفلسفة خاصة. كما إنّ الفرق بين الرحلات العادية ورحلات السَّفر الحقيقية يكمن في قدر الغيرية التي يَخْبُرها المسافر؛ فالرحلات العادية بها قدرٌ قليل من الغيرية، في حين أن رحلات السَّفر بها قدرٌ كبير من ذلك.
حين ننتقل من مكان إلى مكان ونحن منغلقون على ذواتنا، نبقى في مواقعنا ما قبل السفر، فلا يُعد ذلك سفرًا. لا يسافر في الحقيقة من يرتحل وهو يحمل في ذهنه أحكامًا مسبقة وأفكارًا موروثة، ولا يقبل بوجود الجديد والمختلف، ولا يتخفف من الانحياز لثقافته، التي هي كغيرها من الثقافات ليست بطبيعتها مثالية؛ ذلك لأن لكل ثقافة ما يميزها وما يعيبها كذلك. وقليلٌ من يُدرك بأن السفر ليس فقط انتقالاً مكانيًّا، بل زمانيًّا أيضًا. فنحن حين نسافر نخرج من "زمن العادة" وندخل في "زمن التجربة"، حيث كل لحظة محمَّلة بالدهشة أو القلق أو الحنين. يقول الرحالة عبدالله الجمعة: "عندما أسافر فإنني لا أبتعد جغرافيًّا فحسب، بل أبتعد كذلك عن كل ما يربطني بمحل إقامتي، ذلك هو السفر".