: آخر تحديث

ممر زنغزور... استراتيجية القطع والوصل

2
3
2

من أذربيجان إلى أوروبا والشرق الأوسط عبر تركيا، ومن تركيا إلى قلب آسيا الوسطى عبر أذربيجان، يعيد ممر زنغزور الوصل بين جغرافيتين سياسية واقتصادية؛ الأولى تمنح تركيا عبوراً آمناً نحو عالمها التركي، أي الشعوب المتحدثة بالتركية؛ وهو ما يطلق عليه القوميون الأتراك «خط توران». أما اقتصادياً، فقد أطلق هذا الممر العنان لمصادر الطاقة الأذرية نحو العالم، وكان أول الغيث تصدير الغاز الأذري إلى سوريا. كما أن أنابيب نقل الطاقة الأذرية عبر هذا الممر ستكون أقل تكلفة وأسرع من الممرات الموجودة حالياً (باكو – جيهان) عبر جورجيا، أو الممرات الكثيرة المقترحة، ومنها عبر إيران.

فعلياً، نجحت الإدارة الأميركية في إعادة رسم الخريطة الجيو - استراتيجية الموسعة لما تطلق عليه روسيا «مناطق ما وراء القوقاز»، وهي التي كانت حديقتها الخلفية على مدى قرون. وقد حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إحياء هذا الممر بعد الحرب بين أذربيجان وأرمينيا الأخيرة، لكن لم ينجح نتيجة صعوبة واجهها صناع القرار الروسي حينها، بعدم قدرتهم على الدفاع عن حليفتهم التقليدية أرمينيا في وجه الهجوم الأذري الذي استعاد السيطرة على كامل منطقة ناغورنو كاراباخ، وسيطر على الطريق الذي يصل أذربيجان بإقليم «نخجوان» الأذري المحاذي لتركيا وإيران.

أثناء الحرب، وقفت موسكو وطهران موقف المتفرج؛ فروسيا كانت منشغلة بالحرب الأوكرانية من جهة، وبالحفاظ على صفقات التسليح التي عقدتها مع باكو من جهة أخرى. كما أن صناع القرار السياسي في الكرملين فشلوا في التعامل مع الحركة الاحتجاجية التي نجحت في إيصال طبقة سياسية قريبة من الغرب إلى السلطة في يريفان. أما طهران، فكانت أكثر حذراً من موسكو؛ نظراً لما تشكّله الحرب من مخاطر على سلامتها الوطنية، حتى لا تثير غضب القومية الأذرية - الإيرانية التي تُعدّ عماد الدولة منذ قرون، وبحيث لا تقدّم أي دعم لأرمينيا ضد من يعدّهم أذريو إيران «إخوتهم الأذريين».

المشهد الرمزي للمصافحة الأذرية – الأرمينية في البيت الأبيض تعاملت معه طهران ككابوس جيو - استراتيجي يهدّد مصالح أمنها القومي؛ ما دفع جميع مسؤوليها وقياداتها الكبرى إلى التعبير عن رفضهم لما أُطلق عليه «ممر ترمب للسلام والازدهار». عملياً، هذا الممر بطول أربعين كيلومتراً، الذي يربط إقليم نخجهان ببلده الأم أذربيجان عبر أرمينيا، يقطع الطريق بين إيران وأرمينيا وصولاً إلى روسيا، وهو طريقها الوحيد إلى أوروبا. كما يضع جزءاً من ثروتها من الغاز والنفط، تحت رحمة ممرات يسيطر عليها خصمها التاريخي تركيا، برعاية وشراكة أميركية، وصمت روسي. وفعلياً، هذا الممر الضيّق طولاً وعرضاً سيغيّر جزءاً أساسياً من سياسات الطاقة العالمية، ويجعل من الولايات المتحدة شريكاً مؤثراً في منطقة تخضع تاريخياً لنفوذ خصومها، ويكشف مجدداً عجز هؤلاء الخصوم عن التأثير في مناطق نفوذهم التقليدية والتاريخية.

أمام هذا التحوّل، تقف طهران مكتوفة الأيدي، وهي باتت محاصرة بجغرافيا سياسية جديدة تتطلّب منها التكيّف مع المتغيرات، نتيجة قدرتها المحدودة – أو شبه المعدومة – على تغيير الواقع الجديد ولو نسبياً، وبات عليها التعايش الكامل معه. ومن أجل الحفاظ على موقعها الجيو – اقتصادي بعدما خسرت موقعها الجيو – استراتيجي، أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان – الذي تتناقض تصريحاته مع جميع تصريحات قادة النظام – في حديثه مراعاة جميع مطالب إيران بشأن الممر.

وعليه، بين القطع والوصل الجيو - استراتيجي بشقّيه السياسي والاقتصادي، تُعاد صياغة العلاقات الدولية، حيث تصبح أهمية دول الممرات توازي أهمية دول الإنتاج، وهذا ما يجب أن يستوعبه العراق لكونه يحمل الامتيازين، وكذلك سوريا ولبنان كونهما حلقة الوصل بين ثروات المنطقة وأوروبا وصولاً إلى آسيا الوسطى، وممرّاً مكمّلاً للعبور التركي ذهاباً وإياباً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد