مع احتفالها بالسنة السابعة والسبعين لتأسيسها، تشهد دولة إسرائيل في السنوات الأخيرة نزاعات داخلية، سياسية واجتماعية، باتت تهدد نسيج الوحدة الوطنية.
هذه الانقسامات، التي كانت تغلي تحت السطح، أمست تطفو بعد سلسلة من القرارات الحكومية المثيرة للجدل، والإصلاحات القضائية، والانقسامات الديموغرافية، مما يثير قلق العديد من المواطنين حيال مستقبل ديمقراطيتهم وهويتهم المشتركة.
وكان المجتمع الإسرائيلي قد شهد مع نشوب الحرب الحالية والفظائع التي ارتكبها إرهابيو حماس في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 فترة من التلاحم والوحدة بوجه هذا العدو اللدود وهجمات حزب الله من لبنان، ولكن سرعان ما برزت الخلافات السياسية القديمة من جديد في أعقاب تباين الآراء بالنسبة لأهداف الحرب وإعادة المختطفين، بل وقد احتدمت.
وهناك موجة احتجاجات تقوم بها عائلات المختطفين والمعارضين لحكومة نتنياهو بسبب ما يعتبرونه تخاذل الحكومة واتخاذها أساليب المماطلة والتسويف في مسألة المختطفين، وحول موضوع تشكيل لجنة تحقيق رسمية حول أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
ولكن قبل نشوب الحرب، كانت مسألة "الإصلاح القضائي" من أبرز القضايا الخلافية وأكثرها إثارة للانقسام. فقد سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وائتلافه اليميني إلى تقليص صلاحيات الجهاز القضائي، ولا سيما المحكمة العليا، ومنح السياسيين سيطرة أكبر على تعيين القضاة. واعتبر المعارضون، ومن بينهم آلاف المتظاهرين في أنحاء البلاد، أن هذه الخطوة تمثل تهديداً للتوازن الديمقراطي، بينما رأى المؤيدون أن القضاء يملك سلطة مفرطة ويعطل إرادة الحكومة المنتخبة.
لكنَّ هذه الخلافات القانونية تعكس في جوهرها شرخاً أعمق داخل المجتمع الإسرائيلي، بين العلمانيين والمتدينين، وبين المدن الليبرالية والمجتمعات المحافظة في الأطراف، وبين المواطنين اليهود والعرب. لطالما شكل إعفاء الحريديم (اليهود المتشددين دينياً) من الخدمة العسكرية، واعتمادهم على الإعانات الحكومية، مصدر استياء للتيارين العلماني والقومي الديني، خاصة بعد الحرب التي سقط فيها جنود من التيارين. في الوقت نفسه، لا يزال المواطنون العرب يشعرون بعدم المساواة والتمييز ضدهم، حيث يسعى أحد التيارات في هذا المجتمع إلى تحقيق المساواة في الميزانيات والتطوير من خلال المشاركة الأكثر فعالية في الحياة السياسية، بخلاف التيارات الأخرى التي لا تسعى إلى المشاركة في الحكومة.
ويُضاف إلى هذه التوترات العبء الاقتصادي وغلاء المعيشة، مما يثير تذمراً متزايداً من قبل السواد الأعظم من الشعب تجاه المؤسسة السياسية وقلقاً متصاعداً من الفجوات الاقتصادية.
ومن ناحيتها، تشن حكومة نتنياهو حملة ضد المحتجين وضد أصحاب المناصب القضائية والأخرى، سعياً منها إلى تكريس بقائها على سدة الحكم حتى موعد الانتخابات المحدد في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2026 المقبل.
ورغم كل هذه التحديات، فقد تجاوزت إسرائيل أزمات داخلية في الماضي. ويُعد بقاء الدولة وازدهارها في بيئة إقليمية معادية دليلاً على صلابة المجتمع، وإن كان منقسماً في بعض الأمور. لكن الصلابة لا تعني التهاون. فإذا أرادت إسرائيل رأب الصدع، فعليها أن تلتزم مجدداً بالحوار والتعددية والحكم الشامل.
ومن الخطوات الممكنة اتخاذها في المستقبل إنشاء "لجنة وطنية للتلاحم المدني"، تضم ممثلين من مختلف الأطياف السياسية والدينية والعرقية. يمكن لهذه اللجنة أن تقدم توصيات للحكومة حول سياسات تقليص الفجوات، وتعزيز التعايش، وضمان المساواة للأقليات. كما أن الاستثمار طويل الأمد في التربية المدنية، التي تعزز القيم الديمقراطية والاحترام المتبادل، ضرورة ملحة.
وعلى الصعيد السياسي، يجب السعي نحو إصلاحات تشجع بناء التحالفات العابرة للأيديولوجيات، بدلاً من ترسيخ المصالح الفئوية. ويتوجب على القادة أن يرتقوا فوق الشعبوية والانقسام، ويتحدثوا ليس فقط إلى جمهورهم، بل إلى الهوية الإسرائيلية الجامعة التي تربط هذا الشعب.
لقد قال رئيس الوزراء الأول ومؤسس الدولة دافيد بن غوريون إن قوة إسرائيل تكمن ليس فقط في قدراتها العسكرية أو التكنولوجية، بل في عقدها الاجتماعي، ذلك الفهم بأن لجميع المواطنين، رغم اختلافاتهم، دوراً في مستقبل الدولة. ردم هذه الفجوات الداخلية يتطلب صبراً وتواضعاً وقيادة شجاعة. والطريق قد يكون طويلاً، لكن هذه الغاية ما زالت في متناول اليد لمجتمع كان قد تغلب على تهديدات خارجية وجودية خطيرة، فإن معالجة الانقسامات الداخلية باتت أمراً ممكناً وضرورياً.