يظلّ الحديث مشوّقاً عن الصقر، المجلة الرياضية القطرية، وإن احتجبت عن الصدور منذ عام 2006، فقد تركت الكثير من ألوان الطيف والحبّ الخالص لدى عشاقها وقرّائها الكُثر، الذين كانوا يُواكبون صدورها مع مطلع كل يوم ثلاثاء، وهو اليوم الرسمي لإصدار عددها الأسبوعي، والتحضير المسبق للعدد المقبل، الذي ينتهي عادةً مع الثلث ما قبل الأخير من نهاية كل يوم خميس.
وطبيعي أن يُسلّم المحرّرون ما بأيديهم من مواد معدّة للنشر قبل إقفال ذاك اليوم، ليُصار إلى تسليم ملازم المجلة الست عشرة إلى أسرة التحرير ورئيسها، للمشاهدة الأخيرة والتصديق عليها، وإرسالها إلى المطبعة للتنفيذ، على أن تُرسل صباح السبت إلى قسم التوزيع، الذي يقوم بدوره بإرسالها إلى الجهات التسويقية وشحنها لعرضها في المكتبات، وإلى قارئ العربية الذي ينتظرها بفارغ الصبر.
هذا ما كان يحدث من عملٍ مضنٍ وجاد، يقوم عليه الكثيرون من العاملين والمحرّرين في المجلة وأقسامها المختلفة، انتهاءً بقسم التنضيد والتدقيق والإخراج، وغيرها، لتتمثل بين يدي القارئ الذي يُقبل عليها بشراهة لقراءة محتواها برغبة حقيقية.
ومن بين هذا الطاقم، يندفع بقوّة ويظهر إلى الواجهة الزميل العزيز، الأخ الصديق، الأستاذ مجدي زهران، المحرّر العام في المجلة، الذي يواكب ما يُنشر فيها من مواد صحافية مع انطلاقتها الأسبوعية. وقبل ذلك، كان الزميل زهران يشكّل حجر الزاوية الأساس مع بقية الزملاء محرّري الصقر المتميّزين، من أمثال: مازن حجازي، أول مدير تحرير للمجلة التي صدرت مطلع عام 1977، مصطفى لبيب، حسن المستكاوي، محمد كاظم، سلمى أبو جزر، منصور الشيخ، ملكون ملكون، أيمن جادة، بدر الدين الإدريسي، بدر الدين حسن، مصطفى بدري، جمال هليل، فايز عبد الهادي، ظافر الغربي، عمر بدوي، عبد الرحمن البكري، عبّاس محمد حسين، محمد حنفي، محمود حسان، والمخرج أحمد فاضل، والقائمة تطول، فضلاً عن كتّاب ومراسلي المجلة الذين يُعدّون بحقّ نجومها الحقيقيين، الذين يعملون بصمتٍ مُطبق خلف الكواليس، وما ينتجون من مواد صحافية، وريبورتاجات، وتحقيقات، وسبقٍ صحافي مع نجوم الكرة في عصرها الذهبي، كان يفوق ما يقدّمه المحررون أنفسهم.
وكان من أنشطهم ابن مدينة الرّقة المقيم في فرنسا، سامي سليمان، رفعت النجار، فيصل صالح، فيصل شيخ الأرض، عادل شريف، فؤاد حبش، علي رياح، وغيرهم كُثر. وهذا ما كان يدفع بأسرة تحريرها إلى تشجيع من يستحق أن يكون الأفضل تميّزاً على زملائه في الكمّ والنوع، وتحقيق السبق الصحافي، وفي اختيار المادة الصحافية التي تستحق النشر والتسابق نحو دفعها لتكون المادة الرئيسة في المجلة، وإعطائها الأولوية في النشر، وهذا ما يعني إبراز اسم الصحافي الذي حقق السبق الأسبوعي، وبالتالي تكون مكافأته مجزية. وهذا ما كانت تقوم عليه مجلة متفرّدة من أمثال الصقر، متمثلةً برئيس تحريرها المبدع، المتابع، الجدير بحمل راية تميّز مجلة الصقر الرياضية، ونجاحها، وديمومتها، وبالمكانة التي شغلها لسنوات من عمره لأجل نجاحها واستقرارها، إلى حين توقّفها عن الإصدار، الذي ارتأته الحكومة القطرية في حينها، بسبب تراجع أسعار النفط، ما استدعى إقفالها، بالإضافة إلى عدد من المجلات التي كانت تصدر في تلك الفترة، ومنها مجلة الدوحة الثقافية، المتميّزة بجودة طباعتها، وبما تتضمنه من مواد ثقافية غنية عالية الجودة، وتزخر بعمالقة الأدب، وأسماء لامعة لا تزال أسماؤهم إلى اليوم معلّقة في الذاكرة. ونذكر منهم: الناقد المبدع رجاء النقّاش رئيس التحرير، الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي، أحمد العناني، الناقد يوسف الشاروني، عباس خضر، العالم عبد المحسن صالح، الصحافي والمفكّر فتحي رضوان، الصحافي عصام شريح، الناقد السينمائي رؤوف توفيق، الباحث درويش مصطفى الفار، وغيرهم.
فالعودة إلى أيام الزمن الجميل، والتوقّف عند صور الإبداع والتميّز التي شهدتها الصقر لجهة محرّريها، وما قدّموا من مواد سمت إلى أعلى درجات الإبداع، بالنسبة لكثير من عشّاق الرياضة وألعابها المختلفة، وأهمّها لعبة كرة القدم.
ومن بين هؤلاء المحرّرين، يبرز إلى السطح اسم الصحافي مجدي زهران، وهو صحافي محترف بامتياز، نتيجة تنوّع المواد التي كان يتناولها وبصورة أسبوعية، يرسمها للقارئ بأسلوب رشيق، مشوّق، وسهل، وطالما صوّر واقع الألعاب بمختلف أشكالها، دون التوقّف عند لعبة معيّنة.
ترى في الصحافي مجدي زهران، ابن مجلة الصقر الرياضية، عنفوان الشباب وتدفّقه، وهو الذي كان يواصل الليل بالنهار للخروج بنتاج رياضي يعكس حبّ الجماهير، ويتابع أيّ نشاط رياضي بروح قتالية عالية، محاولاً أن يُلمّ بأبعاد المادة الصحافية بكل صورها، بعيداً عن الحصول على مكسب مادي، بل بالركض لأجل خدمة الموضوع والإعلام ككل. وهذه حاله: صدق، إخلاص، تفانٍ، ومتابعة جادّة.
ما كان يحاول رسمه الصحافي مجدي زهران، هو أنه يعرف كيف يحرّر المادة، ويلقي بسنّارته على من يريد صيده أو قنصه دون وجل، نتيجة خبرة واسعة خاضها وتعلّمها إلى جوار كتّاب ومحرّري الصقر ومراسليها، الذين نجحوا أيّما نجاح لأجل خاطر عيون القرّاء المتابعين لما يُنشر فيها مع كل يوم ثلاثاء، مع إصدار المجلة التي يُقبل عليها الآلاف من المحبّين، رياضيين وغيرهم، ممّن ارتضوا بها، وكبروا معها، وفرحوا بمتابعتها وهم كذلك: جماهير رياضية عاشقة تتوق لكلّ نشاط رياضيّ مدهش يُرضي أذواقهم، وينسيهم ساعات الانتظار الطويلة في ملاحقة الأنشطة الرياضية على مختلف ألعابها.
كان الصحافي المخضرم مجدي زهران واحداً من ألمع محرّري مجلة الصقر الذين أضافوا إليها نجاحاً قلَّ مثيله، وصورة من الصور التي ما زالت الجماهير الرياضية العريضة المحبّة للمجلة وللمواد المنشورة فيها تذكرها إلى الآن، بدءاً من صفحة الغلاف التي تُزيّن المجلة، وانتهاءً بالصفحات الداخلية، وأهمّها خواطر الأستاذ سعد الرميحي، رئيس التحرير، وما يسجّله المحرّرون، وعلى اختلاف مشاربهم، من رؤية خاصة لكلٍّ منهم.
وكان الأستاذ مجدي زهران ـــ طيّب الذكر ـــ واحداً من بين هؤلاء المحرّرين، الذين تعرّفت إليه عن قرب في مكتبه الخاص بمبنى المجلة عام 2006، كما التقيت بعدد من المحرّرين الذين كنا نسمع بأسمائهم ونقرأ لهم ما يكتبون، فكانت فرحة لا توصف بلقائهم والجلوس معهم.
في الواقع، كان الأستاذ مجدي زهران لا ينفكّ بك ولا عنك بحديثه المسهب، وبجمله المحبّبة، واحترامه الزائد لزوّاره، ومن أول لقاء به تشعر وكأنك تعرفه منذ زمن بعيد، وبعيد جداً. إنّه مثال الأب الروحي لكلّ من سمع به أو قرأ له والتقى به.
مجدي زهران محبّ للجميع، متزن في أقواله وأفعاله، ويحبّ فعل الخير لكل من عرفه. يحاول أن يقدّم لك الخدمة التي تليق بك. تراه يوجّه ويراقب وينفعل، لكن انفعاله لا يخرج عن حدود الأدب الذي جُبل عليه ولمسناه. فهو قمّة في التهذيب وحفظ الود، وإذا طلبت منه أي خدمة ما، يسبقك إليها، ويوعدك بحلّها مهما كلّفه ذلك، وإن اضطر إلى أن يدفع من جيبه الخاص لقاء إرضاء صديق قريب أو أخ عزيز.
كما أنه كان يحب أن تشاركه الرأي في مادة صحافية يتناولها، ويدفع بك إلى أن يمنحك الصفة التي يترأسها. لا فرق عنده في ذلك، وليس من جيل الصحافيين الذين يحبّون التسلّط أو التباهي بما يرأسون. فهو بسيط إلى حدّ البساطة، وطيّب إلى حدّ الطيبة.
وفي واحدةٍ من اللحظات التي لا تُنسى، زارني الحظ على هيئة تكليف منه لكتابة زاوية الصفحة الأخيرة، فكانت فرحة لا تشبه سواها. وهناك، في مبنى المجلة، التقيت برئيس تحريرها الأستاذ سعد الرميحي، رجل الحضور الطاغي، فجمعنا لقاءٌ غير مُرتّب، لكنه حمل بدايات حلمٍ جميلٍ لم يكتمل، لأسباب الحياة وضغوطها.
ولم يكتفِ مجدي بذلك، بل بقي يحاول، ويسعى، ويتصل، ويكتب توصيات، ويقترحني على من يثق بهم. وكم كان فرحي عظيماً حين علمت أنه بفضل تدخّله، عُرض عليّ العمل في صحيفة الشرق القطرية، بعد سنوات من الانتظار. كان ذلك ثمرة محبّته، لا علاقاته.
ما فعله مجدي زهران لم يكن عابراً، بل كان امتداداً لنبلٍ متجذّر فيه.
وبالصدفة، كان الأستاذ سعد الرميحي، رئيس تحرير الصقر، متواجداً في مكتبه، ونزل إلى الطابق الأول لمجرد علمه بوجودي في مبنى المجلة، وبضيافة الأستاذ مجدي زهران. وبعد أن عرّفه بي، تبادلنا التحيّات، وطلب منه إيجاد أي عمل يتعلق بالتحرير في المجلة، فبادر الأستاذ سعد بتكليفي بتغطية دوري المظاليم، دوري الدرجة الثانية، كخطوة أولى، وقال لي:
"يمكنك إجراء الحوارات إذا رغبت بذلك، أيّ حوار رياضي مناسب للمجلة، وبإمكانك أن تلتقي مع رئيس اتحاد كرة القدم في قطر، وبعدها نقرّر".
فرحت باقتراح رئيس التحرير، وفرح معي الأستاذ مجدي زهران كثيراً، لكنني لم أُكمل المشوار لأنني كنت أبحث عن عمل طويل الساعات يمكنه أن يغطي ما عليّ من التزامات تجاه أسرتي.
وفي أكثر من مرة، اتصل الأستاذ مجدي بأكثر من صديق يعمل في الصحف المحلية، مبدياً محاولاته لإرضائي، وهو الذي كان يدفعني إليهم بكل حبّ ونفس طيّبة، وبدون تذمّر!
وفي عام 2008، كانت هناك محاولات أصابت هذه المرحلة بتزكيتي لدى الأستاذ جابر الحرمي، رئيس تحرير صحيفة الشرق القطرية. وكانت الصدفة أنَّ الأستاذ مجدي زهران كان جالساً في مكتبه، وهو صديق شخصي له، فما كان من الأستاذ مجدي إلا أن ألحَّ على رئيس تحرير الشرق حينها، ووافق على استقدامي للدوحة والعمل كمحرّر في قسم التحقيقات في الصحيفة.
وهذا كله كان نتيجة تدخّل مباشر من قبل الزميل والأخ الصديق مجدي زهران، الذي لم يعرفُ قلبه سوى الحب والوفاء لأصدقائه ومحبّيه.
مواقف كثيرة يمكن أن نقف عندها، كان يثيرها الصديق النبيل مجدي زهران، الإنسان المحافظ الذي يعرف حدوده، وأين وكيف يقف عندها، ولم يكن يقصّر في خدمة في يومٍ ما، وخاصة بعد وصولي إلى الدوحة والعمل في صحيفة الشرق. وكان هو في الوقت نفسه يرأس القسم الرياضي في الصحيفة، وكنت أزوره في مكتبه بصورة دائمة، وأستمتع بحديثه الطيّب، وابتسامته المشرقة، وأُصغي إلى توجيهاته المفيدة.
ومنذ فترة، شاءت الصدف أن يتصل بي للاطمئنان علي، وكنت قبل ذلك أحاول جاهداً البحث عنه عبر مواقع التواصل الاجتماعي للعثور عليه والاتصال به دون جدوى، إلى أن استدللت أخيراً على رقم هاتفه الشخصي.
حاولت الاتصال به أكثر من مرة دون فائدة، فأرسلت له رسالة قصيرة إلى رقمه الخاص، وبعدها فوجئت باتصاله، الذي أسرّني كثيراً وفرحت به.
وآخر ما قاله لي، بعد أن طلب مني رقم هاتف أحد الزملاء الصحافيين القدامى، كان بالحرف الواحد: "نحاول في الوقت الحالي أن نعيد الصلة مع بعضنا البعض، أن نكون قريبين لبعض، لأن ما قد مضى فات، والعودة إلى لقاء الوجوه القديمة التي كنا نعرفها لا يمكن بحال أن تتكرّر بسبب ظروف الحياة القاسية، فقد فقدنا أغلبها وإلى الأبد، ولكن يمكن أن نعيد ترتيب البيت ببعض ما بقي منهم".
إنّه لمّ شمل الأسرة الرياضية الذي أراده الأستاذ الكبير، الصحافي مجدي زهران، أن يعود كما كان في سابق عهده. ولكن، هيهات أن تعود تلك الصورة التي سبق أن تركت فينا بعض الأثر. يمكن أن تعود تدريجياً في حال أنصفنا بعضنا البعض، وأعدنا الأمل إلى الماضي الذي عشناه مع زملاء أثْرَوا الساحة الرياضية بإبداعاتهم، ونحاول جاهدين، وبصدق، أن نغرس بعض الأمل فيمن تبقى منهم، بهدف العودة إلى أيام الزمن الجميل الذي فقدنا نضارته وبريقه.
وإذا كان الزمن لا يعيد نفسه، فإن الوفاء، كما عرفته عند الأستاذ مجدي زهران، يمكنه أن يُعيدنا إلى أنفسنا، وأن يضيء عتمة النسيان، ولو بمصباحٍ صغير.