في الخامس والعشرين من شوال عام 1445ه الموافق للرابع من أيار (مايو) عام 2024م، نعى الديوان الملكي السعودي صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود عن عمر ناهز خمسة وسبعين عاماً، بعد معاناة مع المرض، تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته وأسكنه فسيح جناته.
عامٌ كامل يمضي على رحيل فارس الكلمة بعد حياة حافلة ومسيرة شعرية عظيمة عطرة عبقت بشذاها الأخاذ الأجواء وتغنّت بروعتها الأجيال تلكم المسيرة التي رسمت للقريب والبعيد لوحات إبداعية عبقرية غير مسبوقة لم يأتِ بها الأوائل. لم أتجاوز العقد الأول من عمري عندما شدا فنان العرب محمد عبده لأول مرة برائعة البدر التاريخية الخالدة (فوق هام السحب) ضمن فقرات حفل افتتاح دورة كأس الخليج العربي التاسعة لكرة القدم التي تزامنت مع افتتاح استاد الملك فهد الدولي بالرياض عام 1408هـ / 1988م.
وبعد فترة من الزمن قامت شركة (آرا) للإنتاج الفني بإنتاج فيديو مصوّر للأغنية وأبدع المخرج الكبير الأستاذ محمد مقبل العتيبي في انتقاء اللقطات المناسبة لكلمات الأغنية وأحسن توظيفها وفي مقطع القصيدة: (من على الرمضا مشى حافي القدم يستاهلك) تزامنت مع مقطع فيديو لشخص يمشي في الصحراء وقدماه تغوصان في الرمال. هذه المشهد استثارني فتوجهت للرمال المحيطة بمزرعة سيدي الوالد رحمه الله في بلدتنا مَلْهَمْ – سبعون كيلومترا تقريبًا شمال شرق العاصمة الرياض – فقمتُ بتقليده فخلعت حذائي – أجلّكم الله – ومشيت على الرمال حتى غاصت قدماي فيها وكأن المعنى قد وصل لأعماق مشاعري كطفل في ذلك الوقت، وفي عام 1409هـ / 1989م صدر الديوان الشعري الأول للبدر وكان بعنوان (ما ينقش العصفور في تمرة العذق) احتوى على مجموعة من القصائد العامية والعامودية والحُرّة وقد اشتراه أخي الأكبر الشاعر عبدالعزيز – صاحب القصيدة الشهيرة "يادار لا هنت ِ ولا هان راعيك" – وشاهدت الديوان مصادفة في أحد الأيام في مجلس مزرعتنا وقبل الحديث عن قصتي مع غلاف الديوان أضع بين ناظريكم بعض أجزاء القصيدة التي قال البدر في مطلعها:
الصدق..
ما ينقش العصفور في تمرة العذق
وما وشوش الدبور.. زهرة الرمان
والصدق.. ما زاعت أرض جوفها بركان
وما يحفر الأظفر في جلدة المجدور
وش يخفي الإنسان.. الطيب.. المغرور
عضيت أنا أجساد الحروف الواضحة
يا أخت الطريق..
عضيتها صدق الشفاه الناضحة
شهد وشري..
وكان الحديث.. جرح ٍ طري
مضمد بالياسمين
كان الحديث.. ما هو الحديث اللي تبين
وش اللي تبين؟ الصدق؟
وش الصدق؟! غير الدفا والنور..
(إلى نهاية القصيدة)
أعود لاستكمال قصتي حيث حتّمت مرحلتي العمرية الاكتفاء بقراءة بعض القصائد وترك الكثير منها لصعوبة فهمها في ذلك الوقت غير أن أكثر ما لفت انتباهي هو طريقة كتابة اسم "بدر بن عبدالمحسن" على غلاف الديوان، حيث بدت فعلاً كنقش منقار عصفور... ومرةً أخرى كانت رمال مزرعتنا في ملهم مسرحاً للمحاكاة بالنسبة لي فقمتُ بسكب الماء على جانب من الرمال ثم أخذت قطعة من عسيب (غصن) إحدى النخيل ونقشت اسم البدر عليها.
وإذ استذكر اليوم البدر في الذكرى السنوية الأولى لغيابه، لا أستطيع وصف مساحة الفراغ الكبير الذي خلّفه موته؛ فالراحل الكبير لم يكن مجرد شاعر بل كان مدرسة فكرية جامعة أخذت بمجامع قلوبنا وتألقت أفكاره في كافة الأعمال لتنساب على أرواحنا بصدق ولسوف تبقى مهما تقادم الزمن وأعتقد بأن الأجيال القادمة ستغبطنا كثيرًا لأننا عشنا في عصر بدر بن عبدالمحسن.