في يومٍ من الأيام، كانت بندر عباس تُعرف كمركز حيوي في شبكة التجارة البحرية الإيرانية، بوابة البلاد إلى العالم، ورافعة للاقتصاد الوطني. لكن الكارثة التي شهدتها المدينة في أواخر نيسان (أبريل) 2025، مع الانفجار الهائل في ميناء رجائي، غيّرت هذه الصورة بالكامل. لم يعد الميناء رمزاً للتنمية، بل تحوّل إلى شاهدٍ على الإهمال، وساحةٍ تُمارس فيها أبشع أشكال العبث العسكري. الفاعل؟ الحرس الثوري الإيراني، بإشراف مباشر من رأس النظام، علي خامنئي.
أهمية بندر عباس الاقتصادية والاجتماعية
بندر عباس ليست مجرد ميناء. هي شريان حياة. أكثر من 85 بالمئة من حركة الحاويات في إيران تمر عبرها، و70 بالمئة من الترانزيت، و43 بالمئة من صادرات النفط تمر من هذا المرفأ. في هذه المدينة، يعيش أكثر من نصف مليون نسمة من مختلف الأعراق، يعملون في مهن مرتبطة بالميناء، بالصيد، بالتجارة، وبالخدمات اللوجستية. كان من المفترض أن يكون الميناء مركزاً لتأمين احتياجات الشعب من الغذاء، الدواء، المواد الصناعية والاستهلاكية.
لكن كل ذلك أصبح مهدداً حين تحوّل هذا الميناء التجاري إلى قاعدة عسكرية سرية. تقارير دولية عديدة، من بينها تقرير لشركة الأمن البحري البريطانية "أمبر"، أكدت أن الانفجار ناجم عن تخزين غير آمن لمادة بيركلورات الصوديوم، وهي مادة شديدة الانفجار تُستخدم كوقود صلب للصواريخ الباليستية.
كشف الحقائق من قبل المقاومة الإيرانية
لجنة الأمن ومكافحة الإرهاب في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية كانت من أوائل من كشف حقيقة ما جرى. أكدت أن الانفجار وقع داخل مستودع شركة "بناگستر"، التابعة لمجموعة "سبهر انرجي" التابعة بدورها لوزارة الدفاع. هذه الشركة كانت تحت العقوبات الأميركية منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.
الدور الإجرامي للحرس الثوري
الحرس الثوري، ومن خلال سيطرته على أجزاء كبيرة من البنية التحتية في بندر عباس، حول الميناء إلى نقطة عبور للأسلحة، ووقود الصواريخ، بل وحتى المخدرات. يسيطر على أرصفة كاملة كالرصيف العسكري في باهنر، ويستخدمها في تهريب النفط والبنزين، وتوجيه الدعم اللوجستي لوكلائه في اليمن، لبنان، سوريا والعراق.
لم يكن انفجاراً عرضياً، بل نتيجة مباشرة لتراكم الإهمال، الاستعلاء على القانون، واستخدام المرافق الحيوية المدنية لأغراض عسكرية. وفقاً لشهادات شهود عيان، فإن الانفجار سبقته ألسنة لهب تصاعدت من الحاويات، ثم دوى الانفجار وامتد إلى آلاف الحاويات الأخرى. المعلومات الموثقة تشير إلى أن أكثر من 10 آلاف حاوية تضررت، مع خسائر تُقدّر بعدة مليارات من الدولارات.
رد فعل النظام: التعتيم والكذب والتبرير
بدلاً من الاعتراف بالخطأ، بدأت ماكنة الإعلام التابعة للنظام حملة نفي وإنكار. المتحدث باسم وزارة الدفاع قال إن "لا وجود لأي شحنة عسكرية أو مواد متفجرة في الميناء". نواب في البرلمان كالمدعو مرادي قالوا إن الانفجار ربما كان نتيجة عملية تخريبية إسرائيلية. البعض الآخر تحدث عن "تسريب سياسي" لتخريب مسار المفاوضات النووية.
لكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها. التقارير الدولية، والصور من مكان الحادث، وشهادات المواطنين، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحرس الثوري كان يُخزن مواد شديدة الانفجار في قلب منطقة تجارية مدنية.
تداعيات الكارثة على الاقتصاد
- توقف عمل الميناء ليومين فقط كلّف الاقتصاد الإيراني ملايين الدولارات.
- تضررت سلاسل الإمداد المحلية والدولية.
- صادرات النفط تعطلت، مما زاد الضغط على العملة الوطنية.
- تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية ستكون ضخمة في ظل العقوبات.
لكنَّ الأخطر من ذلك، هو فقدان الثقة. المستثمرون، الشركات البحرية، وحتى الشركاء الإقليميون، سيترددون في التعامل مع ميناء يمكن أن يتحوّل في أي لحظة إلى هدف عسكري.
بُعد اجتماعي وإنساني
أكثر من 250 قتيلاً، وآلاف الجرحى، بينهم عمال، موظفون، وسكان محليون. هذه الكارثة ذكّرت الإيرانيين بما جرى في مرفأ بيروت. آنذاك أيضاً، تمّ تخزين مواد شديدة الانفجار في ميناء مدني وسط منطقة مأهولة، وانتهت بكارثة إنسانية.
خاتمة
لقد أثبتت هذه الكارثة أن النظام الإيراني، بقيادة خامنئي، يُفضّل أمنه الخاص على حياة مواطنيه. الحرس الثوري تحوّل من قوة دفاع إلى تهديد داخلي، لا يفرق بين جبهة خارجية أو حيّ سكني. بندر عباس التي كان يُفترض أن تكون بوابة للسلام والازدهار، أصبحت رمزاً لإرهاب الدولة المنظم.
وإذا لم يتم تفكيك منظومة السيطرة العسكرية على الاقتصاد والمرافق الحيوية، فإننا سنشهد المزيد من بندر عباس، ومزيداً من الدماء، ومزيداً من الكوارث التي يدفع ثمنها الأبرياء.
إنها ليست نهاية الحكاية، بل بداية سؤال كبير: إلى متى سيبقى الحرس الثوري فوق القانون، وفوق حياة الناس؟