: آخر تحديث

جيش القرود الطائرة… من الخيال إلى الواقع السياسي

4
4
4

في عالم الأدب والرمز، كثيراً ما تهاجر الاستعارات من صفحات القصص إلى سلوكيات البشر، وتتحول الكائنات الخيالية إلى وصف دقيق لأنماط اجتماعية ونفسية شائعة، هكذا هو مصطلح القرود الطائرة (Flying Monkeys)، الذي خرج من عباءة قصة (ساحر أوز) ليحط على أرض الواقع كواحد من أدهى الرموز النفسية في العصر الحديث.

ففي الحكاية الشهيرة لم تكن قوة الساحرة الشريرة كامنة فقط في قواها السحرية، بل في قدرتها على التحكم بجحافل من القرود الطائرة، تأتمر بأمرها وتنفذ رغباتها دون أن تملك قرارها، بلا ضمير أو بوصلة أخلاقية.

مع الوقت، وجد علم النفس الاجتماعي في هذا المشهد ما يشبه العدوى السلوكية، وانتقل المصطلح ليصف ظاهرة أخطر: أولئك الأشخاص الذين يتحولون، طواعية أو تحت ضغط، إلى أدوات بيد شخصية نرجسية أو متسلطة أو مؤذية. وهؤلاء لا يكتفون بالتفرج على الظلم أو العبث، بل يشاركون فيه بنشاط، يهاجمون الخصوم، يشيعون الأكاذيب، وينقلون الأذى من سيدهم إلى الآخرين، تماماً كما كانت تفعل جيوش الساحرة.

النرجسيون والمستبدون لا يخوضون معاركهم وحدهم، فهم بارعون في تجنيد القرود الطائرة حولهم: أصدقاء، أقارب، زملاء، أو حتى شخصيات عامة تبحث عن دور أو مكسب. وعبر سلسلة من الإيحاءات أو الأكاذيب أو حتى التعاطف المصطنع، تتحول هذه الكائنات إلى سيوف مسلولة يطعن بها النرجسي كل من يجرؤ على الوقوف ضده. وهنا يكمن جوهر الخطر: فالضرر الذي تلحقه (القرود الطائرة) غالباً ما يفوق ضرر القائد نفسه، لأنهم يوزعون الألم على جبهات متعددة ويخلقون حالة من الفوضى يصعب رصد مصدرها الأصلي.

ولأنَّ الحياة السياسية حقل خصب لكل ما هو نفسي ومعقّد، فقد انتقل المصطلح بسلاسة من مجال العلاقات الشخصية إلى قلب الصراعات السياسية والاجتماعية. في دهاليز السلطة والمصالح، لا تخلو الأنظمة من مجموعات مستعدة لأن تكون قروداً طائرة مقابل امتيازات أو منافع أو حتى بدافع الولاء الأعمى. نراهم في كل ركن من أركان الحياة، في الحملات الإعلامية الموجهة، في ترويج الإشاعات، وفي محاولات تشويه الخصوم أو إسكات الأصوات المستقلة.

خذ مثلاً أنظمة القمع العربية في العقود الأخيرة، حيث لا يقتصر القمع على أجهزة الدولة الرسمية فحسب، بل يمتد إلى جحافل من (المصفقين) في الإعلام والشارع والسوشيل ميديا. هؤلاء لا يتحركون من قناعة ذاتية، بل وفق توجيهات من السلطة أو من متنفذين يبحثون عن حماية أو فتات سلطة. تصبح الإشاعة سلاحاً، والتشويه وظيفة، والهجوم المنظم عرفاً يُكافأ عليه بالنفوذ أو المال. كلما اشتدت الأزمة، زاد حشد القرود الطائرة، وكلما ارتفع صوت الناقد أو المعارض، هبط عليه وابل من الهجوم الممنهج، حتى يصمت أو يُعزل أو يُشوَّه أمام الناس.

في إيران مثلاً، تتحول فئة من الموالين إلى أبواق مدججة، يرددون ما تقوله القيادة دون سؤال أو مراجعة. لا يكتفون بالدفاع، بل يهاجمون من يعارض أو ينتقد، حتى لو كان ذلك مخالفاً للحقيقة أو المنطق. ونرى الشيء نفسه في مناطق النزاع الأخرى، حيث يتحول الأتباع إلى جيوش إلكترونية أو جماعات ضغط، تلاحق المخالفين في كل زاوية وتبني جداراً نفسياً من الخوف والارتباك حول القائد أو الفكرة أو العقيدة. وحين تنتهي المصلحة أو يضعف السلطان، يتنكرون له كما لو أنهم لم يكونوا يوماً في ركبه.

حتى على مستوى الجماعات الأيديولوجية العابرة للدول، كالإخوان المسلمين أو التنظيمات المسلحة المتطرفة، يظهر نمط القرود الطائرة جلياً وصارخاً. أشخاص يبررون كل فعل، ويهاجمون كل نقد، ويحملون على عاتقهم مهمة الدفاع عن الرموز حتى لو انهارت المنظومة الأخلاقية. هنا تتحول الأيديولوجيا إلى عقد نفسي جماعي، تتسع فيه مساحة التبرير وينكمش فيه حس النقد الذاتي.

ولا يمكن تجاهل الأثر المدمر لهذا السلوك في المجتمعات. فالقرود الطائرة ليست مجرد أدوات للنرجسي أو المستبد، بل هم أيضاً محرضون على استدامة الانقسام، يعمّقون الكراهية، ويفسدون فضاء النقاش العام. يتحول الحياد إلى جريمة، والتفكير المستقل إلى تهمة. وبمرور الوقت، يتقوقع المجتمع بين كتلتين: كتلة سيدها الفكر الحر، وأخرى تأتمر بأوامر قرود طائرة تطير بلا وعي ولا وجهة.

المفارقة أنَّ كثيراً من هؤلاء لا يدركون أنهم أصبحوا جزءاً من آلة القمع أو الإساءة، يظنون أنهم يدافعون عن قضية أو رجل عظيم، وهم في الحقيقة يحفرون قبر كرامتهم بأيديهم. التاريخ لا يرحم هذه الفئة، فحين تدور الدائرة، يسقطون مع سقوط أسيادهم، ويظل وصم القرود الطائرة يلاحقهم كظل لا ينمحي.

ختاماً، يبقى اختبار المجتمع الحقيقي هو في قدرته على مقاومة هذا النمط من الانقياد في مواجهة الجيوش الخفية من القرود الطائرة، ولا ينجو إلا من تمسك باستقلالية رأيه، ورفض أن يكون بوقاً لأي مستبد أو فكرة عمياء، لأن الحرية ليست أن تطير، بل أن تختار جناحيك بنفسك، لا أن يركبك آخرون لتصير ظلاً على هامش التاريخ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.