: آخر تحديث

الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة

1
2
1

منذ اللحظة الأولى لتشكّل ما سُمِّي بـ"السلطة البديلة" في دمشق، لم يكن الأمر سوى إعادة إنتاج لسلطة استبدادية بشكل جديد، تلبس ثياب الثورة، وتتحدث باسم المقهورين، بينما تعمل على تكريس منظومة قهر جديدة، لا تختلف عن سابقتها إلا في الرموز والخطاب، أما الجوهر فكان هو نفسه: السيطرة، تهميش الإنسان، وتكريس العصبية.

لقد بدأت تلك السلطة المزيفة ـ منذ لحظة تسميتها نفسها بـ"إدارة العمليات"، ثم إنشاء حكومات مؤقتة متعاقبة، ثم مؤتمرات سد الذرائع الشكلية ـ في بناء كيانها على ركام آلام السوريين، مستغلة فرح الناس بالخلاص من دكتاتورية الأسدين الأب والابن، كما استغلت تعبهم من الجوع والدمار والشتات. كان كل شيء يوحي بأن تمثيلية جديدة تُنسَج، هذه المرة بسيناريو أكثر درامية وسخرية، إذ يكفي أن يبدو الواقع مستتباً، حتى يغضّ الناس النظر عن هوية الجلاد الجديد، ما دام الخبز مؤمناً والأمان متاحاً.

لكن هذه التطمينات لم تصمد طويلاً، إذ ما لبث أن تبيّن للجميع أن السلطة الجديدة إنما تتحرك على جبهتين: واحدة نحو الخارج لاسترضاء العالم، على حساب آلام السوريين، والأخرى نحو الداخل، لتكريس منظومة طائفية، تجعل من "السُّنة" المظلوم الأول، ومن بقية الطوائف: رهائن أو أدوات تسويغ. تحت غطاء المظلومية، بدأت حملة ممنهجة تستهدف جميع السوريين، تماماً كما فعل نظام الأسد، ولكن بصيغة المعارضة التي استولت على ميراث ثورة السوريين، مدعية أنها هي من أسقطت الأسد. إذ أصبح الحاكم الفعلي هو نظام تركيا، الذي استعار وظيفة "المندوب السامي"، بينما كان قادة الفصائل يقتتلون من أجل ألقاب زائفة: وزير، مدير، مسؤول، فيما البلد تتآكل، والناس يُدفنون في مقابر الظل.

في مثل هذه الظروف، لم يكن غريباً أن يُعاد إنتاج الجريمة الطائفية، لا كفعل انفعالي، بل كممارسة مؤسَّساتية. فبعد "مقتلة العلويين" التي تمت بعيداً عن مستوجبات وآليات المحكمة الانتقالية، وجرى تسويقها على أنها رد على كمين، تبيّن لاحقاً أنها كانت استغلالاً لاعتداءات متفرقة طالت الأبرياء، وقبورهم، ومقدساتهم. وكانت هذه الشرارة كافية لتشريع الحرب الرمزية، قبل أن تصبح دموية، على كل من لا ينتمي إلى طائفة "الحاكم الجديد".

الدروز لم يكونوا بمنأى عن هذه المقتلة النفسية. لقد بدأت لغة الاستعداء ضدهم بالتكثف على وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً بحملات تشويه منظمة، وصولاً إلى التهديد المباشر. وكانت الاعتداءات المتكررة، في جرمانا وغيرها، دليلاً ساطعاً على أن الأمر لم يعد مجرد احتقان، بل هو مخطط استئصالي، تديره جهات عسكرية بغطاء سياسي، وتحت أعين العالم وإشراف تركي مباشر.

لا يمكن عزل الاعتداء على الدروز عن سياق ما جرى سابقاً للعلويين أو ما يُهدد به الكرد حالياً. فكل من يخرج عن السياق الطائفي المرسوم، هو في حكم المستهدف. الفيديوهات المهينة التي نُشرت ـ ثم جرى التخفيف منها بعد موجة السخط ـ ليست سوى رأس حبل الجريمة. أما الامتدادات فتقوم وتتأسس على غياب القانون، وانفلات السلاح، وغياب أي مرجعية قضائية حقيقية.

والمسؤول الأول عما يجري هو أحمد طعمة الشرع، الذي يتحمل بحكم مسؤوليته السياسية، ما تفعله الفصائل التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، إذ لا يمكن لغض الطرف عن هذه الجرائم أن يكون بريئاً. لقد تحول هذا الكيان إلى صورة مشوهة من نظام الأسد، إذ بات يُسوّغ القتل بذريعة الدين، ويُشرعن الإخفاء القسري، ويستبدل التحقيق بالرمي المباشر، وكأن شيئاً لم يتغير سوى أسماء القتلة.

أجل، لقد بدا التسجيل الصوتي المفبرك الذي أطلق الفتنة ضد الدروز، مجرد ذريعة، وكان يمكن ـ لو توفر الحد الأدنى من الحكمة والعدل ـ التحقق من الأمر بهدوء، احتراماً لمقدسات الناس ومشاعرهم، ولحقن دماء الأبرياء، ولكنّ السلطة الجديدة فضلت الرصاص على القانون، والتجييش على التحقيق، والنكاية على العقل. وهكذا تسقط الدولة، حتى قبل أن تُبنى.

علينا، نحن السوريين جميعاً، أن نقف في وجه هذه الجرائم، لا بكوننا طوائف، بل لكوننا بشراً. لأنَّ ما جرى في جرمانا وأشرفية صحنايا وصحنايا من اعتداء على المدنيين الدروز، وقبلها ما جرى في أحياء الساحل، وقبلهما ما جرى للكرد، هو مسلسل واحد، عنوانه العريض: الطغيان المتمذهب، وهدفه: الإمعان في تهميش و"تهشيش" وتجزيء سوريا، وإعادة تقسيمها، لا جغرافياً، بل إنسانياً.

ما يجري لا علاقة له بالثورة، ولا بالتحرير، ولا بحق تقرير المصير. ما يجري هو اقتتال على السلطة، يشبه ما فعله البعث منذ عقود، حين مزج القومية بالدين بالزعامة، ليصنع دولة الرعب. وهذه السلطة الجديدة، لا تخرج عن ذلك النموذج إلا من حيث نوع الخطاب، أما النتائج فهي ذاتها: قتل، تهجير، تغييب، وتدمير للنسيج الاجتماعي السوري.

لا أحد بريء في هذا المشهد، ما لم يُدن ما يحصل. لا يكفي أن نستنكر قتل العلوي، أو إهانة وقتل الدرزي، أو تهديد الكردي، بل يجب أن نرفض أن تكون سوريا دولة مبنية على الطائفة، لا على المواطنة ذات الدرجة الواحدة التي لا تمنح مكوناً ما لا تمنحه للآخر من بعد خارج الوطنية.

إنَّ الاعتراف بأن كل الطوائف كان فيها مجرمون، كما أن في كل الطوائف ضحايا، يجب أن يكون نقطة الانطلاق لأي مشروع وطني حقيقي. أما الاستمرار في التعامل مع الوطن كغنيمة طائفية، فلن يقود إلا إلى مزيد من الفناء.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.