هل كانت الأنظمة العربية الثورية البعيدة عن خط المواجهة صادقة في دعمها للقضية الفلسطينية أم استخدمتها كورقة سياسية على حساب دول المواجهة والفلسطينيين أنفسهم؟ يكشف التسجيل الصوتي النادر الذي انتشر مؤخراً على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العربية بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم الليبي معمر القذافي حقائق صادمة طالما أخفتها الشعارات الرنانة والخطابات الحماسية. فقد أظهر هذا التسجيل الذي تناقلته المنصات الإعلامية العربية خلال الأيام القليلة الماضية، اعترافاً صريحاً من عبد الناصر بأن مصر كانت غير مستعدة للدخول في حرب من أجل قضية ليست قضيتها، وأن من يرغب في محاربة اليهود عليه أن يتقدم بنفسه.
سيجد المتأمل في هذا التسجيل التاريخي النادر حقيقة مفادها أن الأنظمة العربية البعيدة عن خط المواجهة استخدمت القضية الفلسطينية كأداة سياسية لتحقيق مكاسب داخلية وإقليمية، بينما تحملت دول المواجهة العبء الأكبر للصراع، وكان الفلسطينيون أنفسهم هم الخاسر الأكبر في هذه المعادلة المختلة. فهل آن الأوان لمراجعة نقدية لهذه السياسات وإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل كشريك محتمل في المنطقة؟
تتجلى من خلال تحليل التسجيل الصوتي المتداول حالة التناقض الصارخة بين الخطاب العلني للأنظمة العربية الثورية وبين مواقفها الحقيقية، فعبد الناصر، رمز القومية العربية والمقاومة ضد الاستعمار، يظهر في التسجيل وهو يرد بصراحة غير معهودة على مطالبات القذافي بتشكيل قوة عسكرية موحدة لتحرير فلسطين بالكامل، قائلاً: "إذا كان حد عايز يكافح ما يكافح" و"اللي عايزين قتال وتحرير يتفضلوا". ويضيف منتقداً المزايدين على مصر: "الجزائر وسوريا والعراق وياسر عرفات وجورج حبش اتفضلوا اجتمعوا وإحنا هنقاطع الاجتماع وحاربوا وأنا مستعد أعطيكم 50 مليون جنيه معونة، وحلوا عننا، سيبونا أحنا في جبهتنا الغربية وسيناء".
ولا يمكننا تجاهل وقائع التاريخ بحقيقة أن الخطاب الثوري الذي تبنته بعض الأنظمة العربية لم يكن سوى غطاء لحقيقة مختلفة تماماً، حيث كانت هذه الأنظمة تدفع باتجاه الحرب وإثارة القضية الفلسطينية دون أن تتحمل تبعات هذا الموقف، وقد تجلى ذلك بوضوح في تأكيد عبد الناصر والذي علم ان الأنظمة الأخرى ترغب في توريط مصر، بأن مصر غير مستعدة للدخول في حرب من أجل قضية ليست قضيتها، وأن من يرغب في محاربة اليهود عليه أن يتقدم بنفسه.
بلاشك فإن المزايدات السياسية التي مارستها الأنظمة الثورية كانت تهدف في المقام الأول إلى تعزيز شرعيتها الداخلية وتحقيق مكاسب إقليمية، وليس إلى تحرير فلسطين كما كانت تدعي، وقد تجلى ذلك في إشارة عبد الناصر إلى أن الدول العربية "الثورية" كانت تخير مصر بين محاربة إسرائيل أو مواجهة حرب معها، وهو ما يعكس استخدام القضية الفلسطينية كأداة للضغط السياسي.
مما يبدو واضحا للجميع أن الخطاب التصعيدي الذي تبنته بعض الأنظمة العربية قد ساهم في تقويض العديد من المبادرات السلمية التي كان يمكن أن تؤدي إلى تسوية عادلة للصراع وفتح آفاق جديدة للتعاون الإقليمي. فالأنظمة الثورية الرجعية قد جلبت الخراب والدمار لبلدانها أولاً ولباقي الشعوب العربية ثانياً، وفوتت فرصاً ثمينة للسلام مع الدولة اليهودية ومرحلة بناء وتطور مع الشريك الجديد للعرب.
بلاشك أن الدول التي اختارت طريق السلام مع إسرائيل، مثل مصر والأردن، قد حققت مكاسب استراتيجية واقتصادية مهمة، وتجنبت الكثير من الخسائر البشرية والمادية. وفي المقابل، فإن الدول التي استمرت في تبني خطاب المواجهة قد دفعت ثمناً باهظاً على المستويين الداخلي والخارجي، دون أن تقدم أي إسهام حقيقي في حل القضية الفلسطينية.
من الحقائق المثيرة والتي يتجاهلها الكثيرون في شؤون المنطقة أن نتائج القرارات غير الواقعية التي اتخذتها بعض القيادات العربية الثورية -التي ادعت التقدمية وكانت وبالا وشرا على شعوبها- بالإضافة الى القيادات الفلسطينية قد كانت كارثية على الشعوب العربية، وأدت إلى تراجع القضية الفلسطينية بدلاً من تقدمها، فالشعارات الثورية لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسات العقلانية التي تأخذ في الاعتبار معطيات الواقع وموازين القوى.
ما يؤكده الفلسطينيين أنفسهم ويجاهرون بأن القضية قضيتهم وهم أصحاب القرار فيها، وهذا حق مشروع لهم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يتعين على الدول العربية الأخرى أن تدفع ثمن قرارات قد تكون خاطئة أو غير واقعية؟
بلاشك أن الدولة اليهودية موجودة كحقيقة لا يمكن إنكارها، وهي ترغب بالسلام والتعايش السلمي الذي يضمن أمنها وأمن مواطنيها. وعلى الرغم من وجود اختلافات سياسية، فإن هناك فرصاً كبيرة للتعاون في مجالات متعددة مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن والبيئة، بما يعود بالنفع على جميع شعوب المنطقة. ومن اللافت للنظر أن الدولة اليهودية أصبحت شريكاً إقليمياً لا يمكن تجاهله، وأن فرص التعاون معها تفوق بكثير مخاطر المواجهة التي حملت في السابق و الحاضر الكثير من الفشل والخسائر بلا طائل. فالسلام والاستقرار هما الشرطان الأساسيان لتحقيق التنمية والازدهار في المنطقة، وهما لا يمكن أن يتحققا في ظل استمرار الصراع والتوتر.
الحقيقة ايضا أن تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والقضايا الإقليمية يتطلب نهجاً براغماتياً يضع مصلحة الشعوب في المقام الأول، فالدول التي نجحت في تحقيق تقدم اقتصادي وتنموي في المنطقة هي تلك التي اختارت السلام والتعاون.