: آخر تحديث

هل من سلام بعد غزّة؟

2
1
1

السؤال الذي يتبع كل حرب: هل من سلام ممكن؟ والحال ينطبق على حرب غزّة التي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد، وأكثر من مئة وعشرين ألفًا مصابًا ومعاقًا، وتدمير كل بنيتها الحياتية. والسؤال قد يحمل قدرًا من الاستغراب: كيف لهذه الحرب أن يتبعها سلام؟ والإجابة لسببين رئيسين: أولًا، أن هذا الصراع وهذه الحرب ليست قاصرة فقط على هذا الجزء الصغير من فلسطين، فلقد أثبتت الحرب بكل تداعياتها كيف تحوّلت لدرجة من الحروب الكونية والإقليمية، ومن هنا حتمية البحث عن حل وتسوية شاملة تضمن عدم العودة لخيار الحرب، فالسلام هنا مطلب ليس فقط فلسطينيًا وإسرائيليًا بل إقليميًا ودوليًا.

والسبب الثاني: كيف لإعمار غزّة، وهو ضرورة حتمية لإعادة الحياة لأكثر من مليونين، أن يتم ومسببات الحرب قائمة؟ فلا إعمار بدون سلام واستقرار ورؤية مستقبلية للتعاون المشترك. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الإعمار لن يكون أحادي الفعل، بل سيحتاج إلى مشاركة الجميع، بما فيها إسرائيل كفاعل مباشر لتحكمها في الكثير من محددات الإعمار. والبديل للسلام هو استمرار الصراع والعنف والقتل والتدمير، الذي ستمتد آثاره لما هو خارج حدود الحرب، ومن ثم يؤثر على السلام الشامل على مستوى المنطقة، بل أكثر المتضررين إسرائيل التي لن تنقذها قوتها ولا تحالفها مع الولايات المتحدة.

هذا، ولقد أثبتت عقود الصراع الطويلة أنَّ خيار الحرب لم يجلب الأمن لإسرائيل أولًا، ولم يحقق قيام الدولة الفلسطينية، وكم من تضحيات وأثمان دفعت في هذه الحروب الإقليمية التي كانت طرفها الدول العربية، وأنَّ هذه التكلفة لو استُثمرت في التنمية والمشاريع المشتركة، لكنا أمام أنموذج للسلام ليس على مستوى المنطقة بل على مستوى العالم، ولجنبنا شعوب المنطقة كل ما نراه اليوم من مشاكل التهجير والفقر والقتل وعدم الاستقرار والحروب الأهلية.

إقرأ أيضاً: غزة بين سنغافورة عرفات وريفييرا ترامب

ولعلي هنا أستحضر حرب تشرين (أكتوبر) العظيمة، والتي انتهت بتوقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل كمفتاح لنبذ خيار الحرب. لكنَّ العقدة الكبيرة كانت في السلام على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ورفض إسرائيل القبول بقيام الدولة الفلسطينية، رغم ذهاب منظمة التحرير إلى اتفاق أوسلو والاعتراف بإسرائيل دولة، وهو ما أكسبها الشرعية من الطرف المباشر للصراع، لكن الاعتبارات الأمنية غلبت على اعتبارات السلام لنصل إلى حرب غزّة اليوم بكل تداعياتها وتضحياتها غير المسبوقة في التاريخ الإنساني.

وكما يقال: الحية لا تلد إلا حيّة، وهكذا الحرب لا تلد إلا حربًا أخرى. ولا شك أنَّ التوصل إلى اتفاق سلام شامل على مستوى المنطقة، وهو مطلب يفرضه الصراع نفسه، والسلام والأمن العالميين، لإنهاء حرب وصراع بحجم الصراع العربي الإسرائيلي، وفي قلبه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو فرصة كبرى لإحلال التعاون والتسامح والقبول المشترك، وإحلال سلام الشعوب قبل سلام الحكومات والدول.

إقرأ أيضاً: غزة ونظرية الفراشة والبجعة السوداء!

والأمثلة كثيرة، فبعد هزيمة نابليون، عقد مؤتمر فيينا (1814-1815) بهدف إرساء توازن قوى مستقر في أوروبا. وبعد الحرب العالمية الأولى، عقد مؤتمر باريس للسلام (1919)، وعلى أثره أُنشئت عصبة الأمم كأول منظمة كونية هدفها السلام، لكن نقطة ضعفها أنها كانت أوروبية المنشأ، والتي لم تحل دون اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبمشاركة أميركية، وكانت نتيجتها بداية نظام دولي جديد، وبحضور خمسين دولة وقعت على ميثاق منظمة الأمم المتحدة، والهدف الأساس له تحقيق السلام والأمن العالميين، والاستناد إلى مبادئ أبرزها احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتسوية الحروب والمنازعات بالطرق السلمية.

والسؤال يتكرر اليوم في محاولات إنهاء الحرب في أوكرانيا وفي غزّة، وما مدى صدقية الدور الأميركي وإدارة الرئيس دونالد ترامب في إنهاء هاتين الحربين وغيرها من المنازعات في المنطقة. ولا شك أنَّ نجاح الوصول لسلام شامل ستكون له تداعيات إيجابية على مستوى العلاقات الدولية، وإرساء أسس ومبادئ جديدة تحكم العلاقات بين الدول، ودور جديد للأمم المتحدة بإصلاحها وتفعيل دورها.

ولا شك أنَّ هذا السلام مطلوب الآن بعد التحولات في القوى، والحرب الاقتصادية بين أكبر قوتين في العالم: أميركا والصين. والبديل لهذا السلام الشامل هو الذهاب وتكرار سيناريو الحرب العالمية الأولى وعصبة الأمم وفشلها، وهو سيناريو قد يتكرر للأمم المتحدة وفشلها، والذهاب إلى الحرب العالمية الثالثة التي ستكون فيها نهاية العالم. فالحروب الكونية قد تبدأ من حروب صغيرة كالحرب على غزّة، التي قد تتحول لحرب إقليمية ودولية.

إقرأ أيضاً: هل من استراتيجية فلسطينية واحدة؟

في هذا السياق يأتي الحديث عن أهمية مقاربة السلام وتوقيع اتفاق شامل ينهي الصراع من جذوره بقيام الدولة الفلسطينية. ويبقى السؤال: كيف يمكن أن تكون الدولة الفلسطينية الطريق والمفتاح للسلام؟

واختتم المقالة بقول الأديب اليوناني أريستون فان: لا يوجد في الحرب سوى أشياء سيئة، حتى المنتصر خاسر.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.