ما يجري في الاقتصاد الأميركي الآن ليس تباطؤاً عابراً ولا عثرة مؤقتة في دورة النمو، بل هو زحف واضح نحو ركود اقتصادي قد يطيح بالكثير من أوهام الاستقرار.
من يراقب المشهد بدقة لا يمكنه أن يتجاهل الارتباك الذي يضرب الأسواق، والتردد الذي يشل السياسات النقدية، والتضارب الصارخ في المؤشرات التي كانت يوماً تُستخدم كطمأنة جماهيرية، نحن أمام اقتصاد فقد إيقاعه، وأسواق ترتجف تحت ضغط قرارات ارتجالية، وأمة باتت تسير على حافة الهاوية.
في الربع الأول من عام 2025، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 0.3 بالمئة. هذه النسبة، رغم أنها تبدو صغيرة، إلا أنها تعني الكثير في اقتصادٍ ضخم كالاقتصاد الأميركي. وهو أول انكماش منذ عام 2022، ويأتي في وقت تتصاعد فيه أصوات التحذير من أن السياسات الحمائية التي أُعيد فرضها، لا سيما الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضتها إدارة ترامب، بدأت تلعب بالنار.
السبب المباشر وراء الانكماش الأخير كان الارتفاع الصاروخي في الواردات بنسبة 41.3 بالمئة، نتيجة سباق الشركات الأميركية لتخزين السلع قبل دخول الرسوم الجديدة حيّز التنفيذ.
هذا (الهلع التجاري) لم يكن سوى تعبير عن فقدان الثقة بالاستقرار التشريعي والاقتصادي. حين يهرب المستثمرون من المستقبل، فهذا وحده كافٍ لإعلان بداية الانهيار.
إقرأ أيضاً: سلطان العرادة… البأس الذي علّم الريح الثبات
الأسواق كانت أول من تلقى الضربة في نيسان (أبريل) 2025، خسر مؤشر S&P 500 أكثر من 10 بالمئة خلال يومين فقط. القيمة السوقية التي تبخرت من البورصة تجاوزت 6.6 تريليون دولار، وهو ما وصفته الصحف الاقتصادية بـ(الزلزال الصامت). موجة البيع العشوائي لم تكن بدافع الخوف فقط، بل كانت نتيجة مباشرة لتحول التوقعات من التفاؤل إلى الذعر، ومن النمو إلى الركود.
البنوك الاستثمارية الكبرى لم تعد تخفي قلقها. بنك جي بي مورغان رفع تقديراته لاحتمال دخول الولايات المتحدة في ركود إلى 60 بالمئة. بينما ذهب جولدمان ساكس إلى نسبة 45 بالمئة، وهي أرقام تعكس تحولاً في الرؤية من داخل قلب النظام المالي نفسه. بل إن مؤسسات مثل بنك أوف أميركا باتت تحذر علناً من موجة إفلاسات في قطاع الشركات المتوسطة، إذا استمر الضغط التضخمي بالتزامن مع ارتفاع أسعار الفائدة.
رغم هذه العواصف، يحاول البعض طمأنة الجمهور عبر الإشارة إلى بعض مؤشرات الصمود. فقد أضاف الاقتصاد الأميركي 177,000 وظيفة في نيسان (أبريل)، مع بقاء معدل البطالة عند 4.2 بالمئة. لكن هذا الرقم، وإن بدا إيجابياً ظاهرياً، يخفي تحته هشاشة حقيقية، فالكثير من هذه الوظائف تأتي في قطاعات غير مستقرة، أو ما يُعرف بـ(الوظائف المؤقتة) والتي لا تعبّر عن استدامة أو توسّع حقيقي. بل تشير التقارير إلى أن نسبة العاملين بوظائف جزئية لأسباب اقتصادية ارتفعت إلى 7.9 بالمئة، وهي الأعلى منذ 2021.
إقرأ أيضاً: موت الموت: ميلاد الخلود الرقمي
ما يجعل الأمر أكثر خطورة هو غياب استراتيجية اقتصادية واضحة. السياسة النقدية محاصرة بين فكي كماشة: رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم يؤدي إلى خنق النمو، بينما خفضها قد يؤدي إلى انفجار في الطلب المصطنع وعودة موجات الغلاء. وفي ظل إدارة تفتقر إلى الإجماع السياسي، يبدو أن الصراع على القرارات الاقتصادية بات أكثر فوضوية من أي وقت مضى.
هناك من يقول إن أميركا اعتادت اجتياز الأزمات، لكن من يردد هذا القول يتجاهل أن طبيعة الأزمة الراهنة تختلف جذرياً؟
نحن لا نتحدث فقط عن تباطؤ في التصنيع أو خلل في التصدير، بل عن تآكل في الثقة، وعن خلل بنيوي في طريقة فهم الاقتصاد نفسه. عندما تتحول (الجمركة) إلى أداة لإدارة السياسة الخارجية، وتصبح أسعار الفائدة رهينة التنافس الانتخابي، يصبح الركود أكثر من احتمال… يصبح نتيجة منطقية.
إقرأ أيضاً: جيش القرود الطائرة… من الخيال إلى الواقع السياسي
المجتمع الأميركي، بطبقاته المختلفة، بدأ يشعر بالثقل. تكلفة المعيشة ارتفعت بنسبة 6.1 بالمئة خلال آخر ستة أشهر، ومعدلات القروض العقارية وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية في 2008. حتى أسعار السلع الأساسية بدأت تشهد اضطراباً في التوريد، وسط مخاوف من تصاعد التوترات التجارية مع الصين والمكسيك. وإذا ما استمر هذا النمط، فإن الربع الثاني من 2025 قد يكون بداية (الانحدار الحقيقي)، كما وصفه تقرير داخلي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.
أمام هذا المشهد، تبدو أميركا وكأنها تسير بثقة عمياء نحو حافة الجرف. السياسيون منشغلون بإعادة انتخاب أنفسهم، والبنوك تُعدّ خطط الطوارئ، والمواطن العادي يتأرجح بين الأمل والخوف، في انتظار ما ستُسفر عنه الأشهر القادمة. لكن الحقيقة تبقى واحدة: الأرقام لا تكذب، والمؤشرات لا تُجامل. والركود… ليس احتمالاً بعيداً، بل ضيف ثقيل يطرق الأبواب بكل وضوح.