: آخر تحديث

خرافة «الفردوس الأندلسي»

3
2
4

عوض بن حاسوم الدرمكي

الحياة ساحة معترك كبيرة، والناس فيها بين أنصار وخصوم ومن لا يزال في مرحلة رمادية لم يألف فيصبح نصيراً، ولم يُدفَع لكراهيتك فيصبح خصماً، ولكن ألدَّ الخصوم هم أولئك الذين لا يتورعون عن تلقّف الأكاذيب وتلميعها لمجرد أنها ضِدّك، لا حق لك في النقاش أو التفنيد، فهو وأتباعه وأذنابه من قومنا خِصامهم معنا أزلي، وفي كل موقفٍ مُلتَبِس ستجدهم على الطرف الآخر، قال الشاعر:

ولقد رَمَقْتُكَ في المواطِنِ كُلّها فإذا وأنتَ تُعينُ مَن يَبْغِيني

داريو فرنانديز موريرا، كاتب أمريكي من أصل كوبي، لم يُعرَف إلا كونه يمينياً مُتطرّفاً وحاملاً للواء محاربة الإسلام ليل نهار، أصدر كتاباً بائساً أسماه «خرافة الفردوس الأندلسي» جمع فيه ما شاء من حوادث منتقاة وبتفسير أتى من رأسه الموتور بكره الإسلام، ليخرج علينا بأنّ ما قيل عن مثالية الأندلس مجرد أكذوبة كبرى، والصحيح أنها كانت أرض بؤس وظلم وتفرقة مقيتة، والسلام!

الأندلس هي أصعب قطعة في الحضور الإسلامي على المستشرقين الموتورين وأتباعهم من اليمين المتطرف والغارقين في الإسلاموفوبيا، فمنذ أيام البابا أوربان الثاني والبابا اينوسنت الثاني، حاملي لواء الحرب الصليبية المقدسة ضد الكفّار المسلمين، ومروراً باليهودي غولدتسيهر وأضرابه شاخت ومارغوليوث وهاميلتون جيب ولويس ماسينيون، وصولاً إلى برنارد لويس ثم داريو موريرا ورفاقه، كان من السهولة وصْم الإسلام بأنه دين شرقي وعقيدة بدو أجلاف وأيديولوجية متطرفة لا تستطيع أن تنجح خارج إطارها الجغرافي، لكنّ المصيبة التي كانت تنقض غَزْلَهم وتنسف طرحهم مِن أساسه هي الأندلس، حيث نجح الإسلام في قلب أوروبا النصرانية وقدّم حضارة ومدنية لولاها ما قامت أوروبا، ولولا ترجمات مدرسة طليطلة للكتب العربية والإسلامية ومدرسة صقلية، لبقيت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهل والفقر وتسلط الكهنوت الكنسي والطغيان السياسي.

لذلك كان لزاماً أن يتم إسقاط الأندلس من الحِسبة حتى تَثْبُت التُهمة، ولكن الأمر ليس متيسّراً أبداً، فالمنصفون من مؤرخيهم كأمريكو كاسترو يقول: «لا يمكن فهم إسبانيا، ولا تكوّن شخصيتها التاريخية، دون استيعاب حقيقة التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الأندلس. لقد وُلدت إسبانيا من هذا الاحتكاك الخلّاق بين الديانات والثقافات»، ورغم قوميته الشديدة، لا يسع كلاوديو سانشيز ألبورنوز إلا أن يعترف قائلاً: «كانت الأندلس أكثر مناطق أوروبا تحضّراً في العصور الوسطى، وأكثرها تسامحاً دينياً قياساً بزمنها»، لذلك كانت الحاجة لكتاب يستطيع قلب المعادلة لإسقاط الأندلس عن بكرة أبيها، فأتى داريو ليخترع خصوماً كرتونيين غير موجودين أصلاً!

موريرا بنى كتابه على مغالطة «رجل القش» ليحصل على انتصار، فهو يرى الأمور إما يوتوبيا مثالية، أو جحيماً واضطهاداً دائماً، ثم انتقى أحداثاً بعينها كحادثة اليهود في غرناطة عام 1066م ليُوهِم أنّ الأندلس كانت مذابح واضطهاداً دائماً، إذن هي ليست فردوساً، بل هي عكسه، وهذه من حماقاته، فلا أحد قال إن الأندلس مثالية، بل الحديث عن التعايش والتسامح وحفظ الحقوق لكل الأعراق والأديان، أما حادثة اليهود فأتت في فترة متأخرة وسببها قتل وزيرهم ابن النغريلة لولي العهد ابن باديس بن حبوس الصنهاجي، وتأليفه لكتب طعن فيها في القرآن وإعلاؤه شأن طائفته اليهود وقَصْر المناصب عليهم وإبعاد المسلمين، لذلك ثارت عليه العامة.

موريرا يتعمد أن يخلط الأزمنة للوصول لمبتغاه، فالأندلس استمرت لثمانية قرون وليست فترة بسيطة حتى يتنقل بين أحداثها كالنحلة ويتباكى على المثالية المزعومة المفقودة، وينتقي أسوأ الحوادث خلال 800 سنة ويجعلها هي النَسَق العام للبلد، والأدهى من ذلك أنه يتهرّب دوماً عندما يُطلَب منه أن يُقارن الأندلس بجاراتها من الممالك الأوروبية، لأنه يعلم أن هذه المقارنة ستنسف طرحه نسفاً، فالمذابح والتمييز العرقي والطائفي وإلغاء الآخر تماماً، كانت هي شعار ممالك أوروبا في ذلك العصر، وهو ما يجعله يروغ عنها كالثعلب!

يقدّم موريرا (الكوبي) نفسه مثالاً للرؤية الأمريكية التي ترفض التعددية وتحارب الإسلام دون هوادة، والمضحك أنّ من يتّهم الأندلس بعدم قبول الآخر وتكميم الأفواه وخنق الحريات، يقوم بذلك بأبشع صورة في القرن الحادي والعشرين، ولا يستحي من هذا التناقض الفج، ولا يستحي وهو يتهرب مرة أخرى عندما يواجَه بحقيقة أنّ كلامه لو كان صائباً لما بقي النصارى واليهود في الأندلس طيلة قرونها الثمانية، ولما بقيت لهم ممتلكاتهم ومحاكمهم الخاصة وتجارتهم وحرفهم التي تحميها الدولة.

لم يقل أحدٌ إنّ الأندلس كانت فردوساً مثالياً، فهي حُجّة رجل القش التي أتى بها موريرا لينتصر على فرضية وهمية، لكنها بالتأكيد كانت أعظم حضور بشري في أوروبا في عصرها الطويل، حيث بقيت سراجاً للحضارة والعلم والفكر والتعايش حتى أطفأتها جحافل الغزاة الآتين من الشمال، الغزاة الذين يحمل رايتهم موريرا وخرافته!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد