: آخر تحديث

من المكوّن تبدأ الصناعة لا من خطّ التجميع

2
1
2

   في خضم الحراك المتسارع لتنويع الاقتصاد الوطني، يبرز ملف صناعة السيارات كأحد أكثر الملفات إثارةً للنقاش.. هل نبدأ من تجميع السيارات أم من تمكين صناعة مكوّناتها؟ والحقيقة التي لا تقبل الالتباس أن الخيار الأذكى والأكثر استدامة هو أن نبدأ من الأساس بالتمكين الصناعي، لا من الواجهة. صناعة السيارات الحديثة ليست مصنعًا واحدًا ولا خط تجميع لهيكل ومحرك، بل منظومة صناعية معقدة تقوم على مئات، بل آلاف المصانع التي تنتج المكوّنات.

من أنظمة الفرامل، والدوائر الكهربائية، والبلاستيكات الهندسية، والألمنيوم، والمطاط، والإلكترونيات، وصولًا إلى البرمجيات. مصنع التجميع في حقيقته هو محطة نهائية تعتمد كليًا على قوة وعمق هذه السلسلة.

 التجربة الصينية تمثل أوضح درس في هذا المجال. الصين لم تبدأ بالقفز إلى المنافسة العالمية في العلامات التجارية، بل اختارت مسارًا مرحليًا صارمًا في التصنيع المحلي. وكما سمعت ذات مرة من  كارلوس غصن عملاق و فيلسوف قاد صناعة السيارات لعديد من السنون، فإن الصين فرضت نسبًا متزايدة سنويًا لتصنيع مكونات السيارة محليًا، وطبّقت ذلك بالتزام كامل على جميع السيارات المستوردة أو المجمّعة داخل السوق، ضمن جدول زمني واضح لا يقبل التأجيل. 

والنتيجة؟ اليوم يوجد في السوق الصينية نحو 150 علامة تجارية نشطة، منها 97 علامة محلية و43 علامة لمشاريع مشتركة. والأهم ان الصين منذ 2009 أصبحت أكبر دولة مصنّعة للسيارات في العالم، وتنتج أكثر من 32% من إجمالي الإنتاج العالمي.

هذه القفزة لم تكن صدفة، بل ثمرة سياسة صناعية واعية بدأت من المكوّن، لا من الهيكل الخارجي. وهنا يفرض السؤال الفلسفي نفسه.. هل من المنطقي أن ندخل هذا المجال كمنافسين مباشرين في صناعة السيارات الكاملة، وعدد سكاننا يقارب 30 مليون نسمة، مقارنة بسوق صينية تتجاوز مليارًا ونصف المليار؟ وهل من الحكمة أن نكرر نموذجًا نجح في بيئة سكانية واستهلاكية مختلفة جذريًا، أم نبحث عن موضعنا الأمثل في سلسلة القيمة العالمية؟ الأقرب إلى المنطق الصناعي والاقتصادي هو أن نركّز على تصنيع مكونات السيارات، حيث تتوزع الفرص، وتتعدد التخصصات، ويصبح بالإمكان بناء مزايا تنافسية حقيقية قابلة للتصدير، دون الحاجة إلى استنزاف رأس المال في منافسة شرسة على العلامة التجارية النهائية. 

ومن زاوية استثمارية بحتة، قد يكون الأجدى أن تواصل  الجهات الاستثمارية الحكومية نهج في تنويع الاستثمارات عبر الدخول في سلة من الشركات الصناعية والتقنية ذات العوائد الأعلى، بدل الانخراط المباشر في إدارة مصانع سيارات كاملة، مع الحفاظ على دور الصندوق كمستثمر إستراتيجي لا كمدير تشغيلي. 

في نهاية المطاف، ما نعيشه اليوم هو جزء من ثورة تنويع اقتصادي تاريخية يقودها أميرنا المقدام محمد بن سلمان، ثورة تعيد صياغة موقع السعودية في الاقتصاد العالمي. والرهان الحقيقي لنجاحها لا يكمن في تقليد التجارب، بل في فهم جوهرها وتكييفها مع واقعنا، بدءًا من تمكين الصناعة المحلية، وتعميق سلاسل الإمداد، وبناء اقتصاد إنتاجي صلب ثم بعد ذلك، يأتي كل شيء في وقته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد