: آخر تحديث

قطيع بانورج... حين يبدأ العام بالقفز دون وعي

3
2
3

صبحة الراشدي

مع مطلع كل عام جديد، تتجدّد وتتكرر الوعود ويعلو صوت التفاؤل في كل مكان. غير أنّ السؤال الحقيقي لا يكمن في ماذا نريد، بل في كيف نختار.

هل نبدأ عاماً جديداً بوعي أعمق ومسؤولية أكبر؟

أم نكتفي بالسير حيث يسير الجميع، والانحياز لما هو شائع لأن القطيع اختار ذلك قبلنا؟

في الأدب كثيراً ما تمنحنا الحكايات القصيرة معاني كبيرة، تختصر تجارب إنسانية عميقة في مشاهد بسيطة، ومن خلال التبادل الثقافي بين الشعوب، نقتبس من الأدب الفرنسي هذه الصورة لرمزية ما زلت صالحة لقراءة واقعنا، رغم اختلاف الزمان والمكان.

ومن بين تلك الحكايات، تبرز قصة “قطيع بانورج” الواردة في الأدب الفرنسي في القرن السادس عشر، ضمن أعمال الكاتب فرانسوا رايليه في سلسلته الشهيرة غارغانتوا وبانتاغرويل..كتب رابليه هذه القصة بروح ساخرة وناقدة،مستخدمًا الرمز بدل الوعظ المباشر، طبيعة السلوك الجماعي حين يذوب العقل الفردي داخل الجماعة.

تحكي القصة عن بانورج الذي وجد نفسه على متن سفينة مع تاجر أغنام شهير بالطمع والقسوة، لا يرى في القطيع سوى وسيلة للربح.نشب خلاف بين الرجلين فقرّر بانورح لا بالقوة ولا بصوت العالي، بل بحيلة ذكية تكشف طبيعة القطيع أكثر مما تؤذي أفرده.

اقترب بانورح من التاجر، واشترى أكبر أفرد القطيع وأقواها، ذلك الذي اعتادت البقية أن تسير خلفه بلا سؤال.حمله إلى حافة السفينة، وألقاه في البحر.لم تكن المأساة في سقوط الفرد الاول، بل فيما عقبه ؛فما هي إلا لحظات حتى اندفع القطيع كله خلفه، واحدًا تلو الآخر، بلا تردّد، بلا سؤال، بلا محاولة فهم الموضوع، لفهم ما يحدث.

القفز صار فعلاً جماعياً لا يحتاج إلى سبب. وحين أدرك التاجر فداحة ما يحدث، حاول عبثاً إنقاذ ما تبقى، لكنه انساق بدوره وراء الفوضى، فسقط وغرق مع قطيعه. لم يكن البحر هو القاتل الحقيقي، بل غياب السؤال، وذوبان المسؤولية الفردية داخل الجماعة.

هذه القصة، على بساطتها، لا تتحدث عن حيوانات ولا عن سفينة، بل عن الإنسان حين يتخلى عن عقله وحين يصبح الانتماء للجماعة أقوى من صوت المنطق، ويغدو السير مع القطيع أيسر من الوقوف للتفكير.

ولعلّ أخطر ما في سلوك القطيع أنه لا يشعر بخطئه إلا بعد فوات الأوان. فالفرد الأول لا يرى النهاية، ومن بعده يثق كل واحد أن من سبقه قد اختار الطريق الصحيح. هكذا تتراكم القفزات، وتتضاعف الأخطاء، ويصبح الرجوع أصعب من كل خطوة.

في واقعنا المعاصر، لا نحتاج إلى سفينة لنرى “ قطيع بانورج “ من جديد. نراه في الآراء الجاهزة وفي الأحكام السريعة، في تقليد السائد لأنه سائد، وفي الخوف من الأختلاف لأنه قد يضعنا خارج الصف. نراه حين نتبنى مواقف لم نخترها، ونكرر قناعات لم نفهمها.

إن بداية عام جديد ليست مجرد رقم يُضاف إلى التقويم بل فرصة صادقة لمراجعة علاقتنا بأنفسنا وبقراراتنا. هل نختار لأننا اقتنعنا ؟ أم لأن القطيع اختار قبلنا ؟ هل نمضي لأن الطريق واضح ؟ أم لأن الوقوف للتفكير بات فعلاً مُرهقًا؟

وفي الختام، لنجعل من العام الجديد بداية وعيٍ أعمق، ننظر فيه ليس فقط إلى ما نحتاجه كأفراد، بل إلى ما يحتاجه الوطن والمجتمع. فالوعي الفردي الصادق هو الذي يصنع مجتمعاً قوياً، والمجتمع الواعي هو الذي يصنع وطنًا ينهض فلا يكون العام الجديد رقمًا في التقويم،بل خطوة نرتقي بها كما يحتاجنا الوطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد