عمر الطبطبائي
ليس هناك ما هو أمرّ على قلب النائب السابق من أن ينظر إلى قاعة عبدالله السالم وهي صامتة، لا صوت يُسمع ولا سؤال يُرفع ولا قانون يُراجع ولا موقف يُحاسب.
هذا فراغ في نبض الوطن، وأسوأ ما في هذا الفراغ أنه لم يأتِ من خصومة مع الخارج بل من خصومة داخل البرلمان نفسه، فمقاعد ممثلي الأمة كانت يوماً سلاحاً في وجه الفساد، واليوم أصبح بعضها معولاً على كل ما هو ثابت، وبدل أن يكونوا سداً للوطن أصبحوا ثغرة فيه.
أنا لا أكتب من منصة المحلل السياسي بل من زاوية من عرف المجلس من الداخل، من وقف هناك لا ليزايد بل ليحاول، ومن يكتب اليوم لا ليرثي تجربة بل ليقول: المجلس لم يغلق بصدور المرسوم، بل أغلق حين تحوّل بعض من فيه من ممثلين للأمة إلى خصوم للدولة.
في كل برلمان هناك من يدخل القاعة ليحاور ومن يدخل ليصارع، هناك من يحمل ملفاً ومن يحمل مزاجاً، هناك من يسأل: ماذا أستطيع أن أقدم لوطني؟ وآخر لا يسأل إلا من خالفني وكيف أرد عليه؟
في الكويت ابتلينا أحياناً بنائب لا يرى الدولة إلا من زاوية العداء، نائب لا يفرق بين معارضة أداء ومعارضة وجود، لا يفرق بين نقد السلطة التنفيذية ونقض الدولة.
تجده في كل معركة لكنه خارج كل مشروع، يحضر حين تكون هناك أزمة لا ليحلها إنما ليشعلها، يسائل لا ليسمع الجواب بل ليرفع الصوت، يقاطع لا ليضغط لأجل قضية بل ليقال عنه: قال «لا»، هو ليس نائباً بالمعنى الدستوري إنما حالة مزاجية متنقلة.
الناس انتخبوه ليمثلهم فاعتقد أنه يملكهم، صعد على أكتاف الغضب فأصبح يعتاش عليه، كلما هدأت البلاد استعجل الأزمة، وكلما اقترب الحل، خاف أن يخسر دوره كمحرّض دائم.
كان يفترض أن يكون النائب قلباً يخفق للناس فإذا به يتحوّل إلى صدى لا ينبض إلا في الاتجاه الذي يريده غيره، لا يمثل من انتخبه بل من هندس له طريق الوصول.
هؤلاء لا يخيفون الدولة بل يربكونها، لا يبنون مؤسسات بل يهدمون الثقة، هم ليسوا خصوماً للحكومة بل هم خصوم للمنطق وللواقعية، وللوطن نفسه حين لا يشبههم.
السياسة أخلاق والبرلمان سلوك والنائب الذي لا يحترم موقعه لا يستحق أن يُسمى ممثلاً لأحد، وهذا النوع من النواب، لا يحترم القاعة التي أقسم فيها، ولا يعرف من الدستور إلا ما يخدم معركته، ولا يرى في الديمقراطية إلا منبراً شخصياً لا منصة وطنية.
هو النائب الذي حين تختلف معه يشكك في وطنيتك، وحين تنتقده يشكك في دينك، وحين تسكت عنه يتمادى في احتكار الصوت والصورة والموقف.
لذلك فالمعركة مع أمثال هؤلاء ليست مع أشخاص بل مع نمط، نمط يجب أن يُعرى لا لأننا نكره أحداً بل لأننا نحب الوطن، نمط يجب أن يكسر لا بالشتائم بل بكلمة واضحة تقول: البلد لا يُدار بالصراخ ولا ينهض بالتحريض ولا يُبنى بالمواقف الموقتة.
ففي كل زمن يوجد من يريد أن يكون نائب أمة ومن يريد أن يكون خصيم وطن، وليس كل من صرخ كان على حق.
الديمقراطية لا تُهدى بل تُصان، والموقع النيابي ليس وساماً بل امتحان يومي في الضمير، فإن لم يكن النائب ضمير أمته صار عبئاً عليها، وإن لم تكن قاعة البرلمان منبراً للحقيقة تحولت إلى مسرح هزلي يتكرّر فيه المشهد نفسه، صراخ بلا صوت، حضور بلا أثر، ومواقف للبيع على قارعة المزاج!
ومن لا يستطيع أن يترفّع عن ذاته لا يستحق أن يتحدث باسم شعب، ومن لم يفهم أن السلطة أمانة لا غنيمة فلا يحملها إلا لأقرب مزاج، وهنا فقط تقلق على الدولة لا حين تقاطعها الحكومات بل حين يخونها ممثلوها.
اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.