: آخر تحديث

ما لا يُقال أخطر مما يُعلن

2
2
2

بهذا الاستنتاج خرج الصحفيون المتلهفون أمام أسوار أودية السيليكون في كالفورنيا وفي الصين، بحثاً عن تسريب أو إعلان لتقنية ذكاء اصطناعي جديدة، خاصة بعد أن تم التعاون بين البنتاغون والشركات العاملة في وادي السيليكون بسرية تامة وغموض لتطوير أسلحة تكنولوجية.
ما يُعلن هو القليل وفي هذا القليل ينشغل المُحللون والباحثون، خاصة بعد الحروب الأخيرة وما أفرزته من مفاجآت قلبت موازين القوة العسكرية وأدهشت الكثيرين. تركت دور النشر كتب الآدب والتاريخ والإعلام، وترك كتّاب التقرير همومهم اليومية، واتجهوا إلى الدراسات العسكرية. من هنا بدأ الاهتمام العالمي بالكتب والتقارير العسكرية القديمة والحالية، المُعلنة والمُسَربة بسرية. ففي هذه الأودية المُعتمة يُصنع مستقبل البشرية، حيث تجاوز تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المَنحى السِلمي إلى الاندفاع في المنافسة لتطوير الأسلحة القاتلة التي سيتمكن من يملكها من حكم العالم. وما لا يقال يُخبئ تحت المحيطات، فما سُرِب حتى الآن قليل من كثير عن أسلحة أعماق البحار. وفي ظل تصاعد «سباق التسلح غير المرئي» بين الصين والولايات المتحدة وروسيا وغيرها من الدول الكبرى برزت حقيقة أن امتلاك السلاح النووي لم يعد كافياً للردع. أسلحة الجيل القادم أسرع وأدق وأقل كلفة. فالسباق اليوم لم يعد سباق تسلح، بل سباق نفوذ عالمي.
برز اسم بريان كلارك وهو خبير مهم في الشؤون البحرية الأمريكية والحرب تحت الماء حيث ظهر في بودكاست، ناقش فيه التهديدات وسباق التسلح البحري مشيراً إلى إمكانية قيام المركبات الذكية بتعطيل الإنترنت تحت البحر ما يُعد تهديداً للأمن العالمي والاقتصاد الرقمي. وأضاف كلارك أن حرب الأعماق قادمة ولن تُخاض بالغواصات المأهولة، بل بأسراب من آلات غير مَرئية قد تعمل بهدوءٍ قاتل خارج رادارات القانون والسياسة.
ويؤكد أن السبيل الوحيد لضبط هذا التهديد هو عبر تطوير استراتيجيات رقابة دولية وتعزيز الجاهزية البحرية الذكية. وهو ما لم يحصل حتى الآن في ظل التكتم والاستمرار في تطوير أسلحة خفية تحوّل أعماق المحيطات إلى ساحات قتال غير تقليدية. لكن الكاتب روبن ليرد (Robbin Laird) وهو مُحلل عسكري حذّر عام 2024 من أن القوة البحرية الصاعدة قد تكون قاتلة ما لم تُعلن رسمياً أو تُدرج في تفاهماتٍ شفافة. ركز على الأسلحة البحرية الخفية التي تُطور خلف الأضواء خارج نطاق الاتفاقيات وتمثل ثغرة استراتيجية أمام الدول الكبرى. كل ما سبق يجعلنا نقف ونسأل لماذا أعماق البحار؟
في قلب المحيطات حيث لا تصل الأقمار الصناعية ولا الكاميرات ولا الجيوش التقليدية تُخفي الدول الكبرى ترسانات مُتطورة من الأسلحة البحرية الذاتية، التي تعمل بصمت وترقب وتتجسس وتنتظر الأوامر. ومع تسارع التطور الرقمي والذكاء الاصطناعي أصبحت أعماق البحار تمثل أخطر جبهة صامتة في الحروب الحديثة. وفي البحث عن لماذا أعماق البحر كان الجواب..
أولاً: لأنها غير مرئية تقريباً، وتعمل في بيئة صعبة الرصد والمُراقبة. ثانياً: لأنها قد تُستعمل لتدمير البنية التحتية الحيوية للعالم الرقمي مثل كابلات الإنترنت البحرية. ثالثاً: لأنها تدخل في سباق الذكاء الاصطناعي من جانبه المُظلم وغير المُعلن ومازالت خارج الإعلام والرقابة الدولية. نعم خرج الجميع باستنتاج مؤسف «ما لا يُقال أخطر مما يُعلن» فأعماق البحار هي أكثر المجالات سرية في التسلح العالمي لعدة أسباب أهمها كما ذكرنا عدم إمكانية مراقبتها بالأقمار الصناعية أو الطائرات.
ورغم السرية فإن بعض ما تسرب سمح بكشف بعض الأسلحة وهو ما نشر في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية عن الغواصة الروسية «بوسيدون». وهي غواصة ذاتية تحمل رأساً نووياً، وتستطيع أن تظل في البحر لأسابيع وتضرب المدن الساحلية. وصفتها بعض التقارير ب «قنبلة قيامة بحرية». وأشار التقرير إلى قدرة الغواصة على تجاوز الدفاعات الأمريكية التقليدية.
وفي المقابل كشف تقرير نشر في Defense News عن مشروع «Orca» التابع للبحرية الأمريكية وهو غواصة ذاتية من دون طاقم تابع لشركة بوينغ تستعمل للعمليات الطويلة المدى من الاستطلاع إلى الهجوم وهي مزودة بأنظمة ذكاء اصطناعي تمكنها من اتخاذ قرارات مُستقلة. ونفس التقرير حذر من تحويلها إلى سلاح مُميت من دون رقابة بشرية. وفي الصين التي تعمل بجدية للحاق بسباق التسلح البحري سُرِبت تقارير نُشرت في صحيفة South China Morning Post تحدثت عن تطوير روبوتات انتحارية سرية وعن غواصات صغيرة تُبرمج لضرب أهداف مُحددة وتتخفى لسنوات.
البحر يكتم الأسرار لذلك هو الخيار الأمثل للدول الكبرى التي تتنافس على استغلال التكنولوجيا الحديثة لحكم العالم. أسلحة أعماق البحر تشكل الحد الفاصل بين ما هو مُعلن وما هو سري، بين ما يُصنف كسلاح وما يُخفى خلف سِتار «أبحاث بحرية». ومع تطور الذكاء الاصطناعي تصبح هذه الترسانة أكثر استقلالية وأقل خضوعاً للرقابة ما يفتح الباب أمام حروب غير مُتوقعة تدار من قاع المحيطات وتُحَدد نتائجها على سطح اليابسة.
إن دراسة هذه الأسلحة ومُراقبة تطورها لم تعودا خياراً، بل ضرورة، لأن حروب المستقبل قد تُكتب في أعماق البحر حيث تَختبئ أخطر الأسرار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد