: آخر تحديث

في البدء كان احترام الملكية الفردية

2
2
2

بدأنا معرفتنا بالنافذة التي نرى بها العالم بسؤال سهل. ما هذه؟ عين. ثم عرفنا أن هذه قرنية وهذه قزحية وهذا بؤبؤ وذاك تجويف. نفس الإطار العام الذي بدأ منه جراح العيون معرفته. لكنه تعمق إلى العدسة والسوائل والأعصاب والشبكية وكيف يتعامل معها بالأدوات الجراحية وتحت المجهر. وفي المسافة بين معرفة الإنسان العادي ومعرفة الخبير، تأتي معرفة المريض. بدافع الفضول يجمع عن عينه من المعلومات أكثر منك. وقد يتبوأ منزلة الناصح، متشجعا باعتقادات شعبية مثل «اسأل مجربا ولا تسأل طبيبا».

من المفيد أن نتذكر هاتين القاعدتين في جميع المعارف: البساطة كمقدمة حتمية للتعقيد، ومنزلة المريض من المعرفة بموضوع مرضه. فنسعى إلى تحديد الهيكل قبل أن نخوض في التفاصيل وإلى المعلومات الأساسية قبل الرأي. فإن احتجنا الأخير تخيرنا مصدره.

وبناء على هذا، من الصعب أن نصل إلى علاج سياسي اقتصادي دون أن نمر على الإطار العام للتطور الذي حدث حولنا. ولنبدأ من بريطانيا. كانت حتى عصر النهضة إقطاعيات يملكها نبلاء، والبقية يعملون أجراء في الأرض، أو فرسانا وجنودا يدافعون عنها، أو في مهن محدودة تخدم هذا الترتيب. لكن التغير الكبير جاء مع توسع النشاط المهني، ظهرت نشاطات مثل البِحارة، واتسعت التجارة. فحاز مزيد من الأفراد ثروات صغيرة. ابتكر هؤلاء الأفرادُ مفهوما جديدا غيَّر معادلة النفوذ الاقتصادي. الآن يستطيع مجموعة من الأفراد ذوي الثروات الصغيرة الالتئام في كيان اعتباري أضخم من أيهم منفردا، يستطيع أن ينافس النبلاء وأصحاب الأملاك الضخمة. هذا الكيان يسمى الشركة. وظهرت البورصة، فتوسع مفهوم الملكية الفردية، وصار بمقدور مزيد من الناس من صغار الملاك أن يحوزوا أنصبة في شركات، تنمي رؤوس أموالهم. وهذه الشركات خلقت مزيدا من الوظائف. وهلم جرا.

النقطة الجوهرية هنا ليست فقط الثروة، وإنما خلق مصلحة حقيقية لمزيد من الأفراد في النجاح الاقتصادي والثراء.

حوْل هذه النقطة بنت أوروبا الغربية رؤيتها السياسية الاقتصادية. من ناحية، احتاجت إلى التمثيل النيابي لتوزيع النفوذ السياسي بما يتناسب مع تنوع النفوذ الاقتصادي. ومن ناحية، تدرج الحق الفردي في الانتخاب متماشيا مع توسع الملكية. وظهرت مقولة ديمقراطية أصحاب الممتلكات. فكان حق الانتخاب في البداية مرتبطا بالتملك الفردي، لكي يقترن تصويته بالمصلحة في النجاح، وليس بالسعي إلى تحجيم الناجحين، لأن من لا يملك شيئا قد يؤيد إسقاط ما لا يملكه. فخلقت الدولة منظومة حوافز يغذي بعضها بعضا.

كان هذا نموا طبيعيا، طريقا مفتوحا لمن يجتهد. هؤلاء من صنعوا الثورة الصناعية، وهي بدورها صنعت مزيدا من الأثرياء ممن تكيفوا معها وفهموا متطلباتها. كان الشعار «اسع إلى المزيد أيها الفرد» فهذا من مصلحة الجميع. الدولة ليست مشغولة بتقييدك ولا تحجيم ثروتك.

عند هذا المفترق، تباينت طرق غرب أوروبا وشرقها الاشتراكي. نموذج الكتلة الثانية سعى إلى تفتيت الثروات عمدا، وتوزيعها على من لم يجتهد لبنائها، بدعوى المساواة. وقرن هذا بدعاية استحقاق تغذي النقمة. فضمنت الدولة أن تكون صاحبة النفوذ الاقتصادي الوحيد.

ومع تحكم الدولة، بقيت الثروات المفتتة على حالها، دون أن تتطور. ولم يكن مرغوبا لها تجاوز عتبات الاستثمار والتحول إلى مراكز نفوذ اقتصادي. حتى صغار الملاك لم يسلموا من نفس السياسة التأميمية من باب خلفي، جردتهم الدولة من عوائد ممتلكاتهم الصغيرة، وأشركت فيها المستأجرين. فخلقت نمط المالك المستأجر والمستأجر المالك، وكلاهما بلا مصلحة في الاستثمار في الممتلكات. الأول لأنه فقد العائد منها، والثاني لأنه يعلم أنها لن تؤول إليه يوما. من هنا ظهر القبح في المباني، والتدهور في مستوى الجميل منها، وهو ما نراه اليوم في أحياء كانت يوما رمزا للجمال المعماري. وظهر التجريف في الأرض الزراعية، حيث - يا للعجب - صار تجريفها أكثر عائدا لصاحبها من الاستثمار فيها.

من تحليل هذا الإطار إلى عناصره الأولية خلص العقل السليم إلى أنه «في البدء كان احترام الملكية الفردية»، حجر الأساس لبناء مجتمع ناجح اقتصاديا وسياسيا. لكن المتحدث المؤدلج ينطلق في وصفاته الاقتصادية من موقع المتألم بالداء، المذكر بالمعاناة. ومع الزخم الشعبوي حل محل خبراء الصحة، وطردهم من سوق الاستشارة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد