لو أنّ أحداً سألني عما هو إيجابي في قمة بغداد العربية التي أنهت أعمالها السبت 17 من الشهر الحالي، فسوف أقول إنه كان قليلاً. ولقد تمنيت مع غيري لو أن هذا القليل كان كثيراً، لولا أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه في الحياه كما بالقمة العربية.
في مقدمة المقدمة من هذا القليل يأتي مجيء بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا، مدعواً من القمة للحضور بوصفه ضيف شرف في عاصمة الرشيد.
فعندما وقف يخاطب العالم من أرض القمة، أعاد تأكيد موقف حكومته المُضيء تجاه حرب إسرائيل على قطاع غزة، وراح يدعو إلى وقف الحرب على الفور، ويدعو أيضاً إلى إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع بسرعة وبأي طريقة ممكنة.
وحين أقول إنه أعاد تأكيد موقف حكومته، فالقصد أن هذه ليست المرة الأولى التي يتخذ فيها بيدرو هذا الموقف القوي على المستويين السياسي والإنساني معاً... فلقد كانت حكومته تبادر دائماً إلى أن تكون في مقدمة حكومات أوروبا وقوفاً إلى جانب الحق في غزة، وكانت ولا تزال تنتصر للفلسطينيين في كل محفل، وكانت ولا تزال تتخذ من المواقف ما يُرضي الضمير الحُر الذي يستجيب لكل ما هو إنساني فلا يتخاذل.
ولا نزال نذكر كيف أن سانشيز طار ذات يوم إلى معبر رفح، ومن أمامه وقف يدعو العالم إلى العمل على وقف الحرب بأي ثمن، ولم يعبأ بما يمكن أن يجره موقفه الشجاع على حكومته أو حتى على بلاده من عواقب.
وعندما انقطع التيار الكهربائي فجأة في أنحاء إسبانيا كلها، ودون استثناء، فإن الأمر بدا داعياً إلى الشك والريبة. ورغم أن الحكومة في مدريد لم تتهم طرفاً محدداً بالمسؤولية عن انقطاع التيار بهذا الشكل للمرة الأولى في تاريخ البلاد، فإن ما قيل على هامش الواقعة وإلى أن عاد التيار، كان يشير من طرف خفي إلى أن الانقطاع المفاجئ في أرجاء البلاد جميعها لا يمكن أن يكون من وحي المصادفة، وأنه ربما يكون جزءاً من ثمن تدفعه إسبانيا بسبب موقفها الجريء من الحرب على القطاع.
لا يدخر رئيس حكومة إسبانيا أي جهد في سبيل وقف الحرب، ولا في سبيل إدخال المساعدات للمدنيين الذين لا ذنب لهم في هجوم كتائب القسام في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
لا ذنب لهؤلاء المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ في حرب دامت ما يزيد على السنة والنصف، وزاد عدد ضحاياها على الخمسين ألفاً بخلاف عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين... لا ذنب لهم لأنهم لا يريدون سوى العيش على أرضهم، ولا مشكلة لهم مع إسرائيل إلا أنها تقتحم عليهم الأرض وتنازعهم الإقامة فيها.
هذه المعاني كلها مع سواها مما يقع معها على المستوى نفسه، كانت ولا تزال هي التي حركت وتحرك بيدرو سانشيز، فتجعله يستجيب لكل ما هو مستقر في وجدانه من قيم إنسانية، وتجعله ينتصر للمقهورين في القطاع لأن هذا واجب إنساني قبل أن يكون واجباً سياسياً يفرضه استشعار المسؤولية على مستوى الدول.
ويبدو أن شيئاً من الجينات العربية الإسلامية قد تسلل إلى جسد رئيس الحكومة في مدريد، فجعله يتعاطف مع المدنيين في فلسطين على هذا النحو اللافت، وجعله يبادر في كل مرة فلا ينتظر أن يكون موقفه مجرد ردة فعل على فعل.
فالعرب المسلمون مكثوا في بلاد الإسبان ثمانية قرون كاملة انتهت في 1492، والثابت تاريخياً أنه حتى ذلك التاريخ كانت المساحة التي تشغلها إسبانيا والبرتغال حالياً تُسمى بالأندلس، وكانت تحت حكم العرب المسلمين منذ أن عَبَر إليها طارق بن زياد آتياً من المغرب.
في تلك الأيام كان العرب المسلمون يحكمون الأندلس على أساس من القيم العالية التي يقول بها الإسلام الصحيح في وقت الحرب وفي وقت السلم معاً، ولا يطالع أحد تاريخ القرون الثمانية إلا ويرى كيف أنها كانت قروناً من نور في جنوب القارة الأوروبية.
هذه القرون لا يمكن أن تكون قد صبت في فراغ، ولا يمكن أن يكون عائدها قد تبدد أو ضاع، فلا شيء في هذا الكون يُترك للمصادفات، ولا شيء يولد من فراغ أو يذهب إلى فراغ، وإنما هناك حكمة إلهية تجعل كل الأشياء تنتظم في سياق مكتمل.
تشعر وكأن خيطاً خفياً يمتد من أيام الأندلس ليصل إلى مدريد في حاضرها، ثم تشعر وكأن هذا الخيط الخفي يصل إلى أعماق سانشيز، فيتصرف الرجل بما يتصرف به ويثير الإعجاب في كل المرات. فلقد كان في مقدوره أن يتخذ مواقف رسمية جامدة لا حياة فيها فلا يلومه أحد، ولكنه يأبى إلا أن يكون إنساناً، وبكل ما تعنيه كلمة إنسان لدى صاحب المسؤولية تجاه الآخرين.