في أواخر السبعينات عاشت بريطانيا أزمات اقتصادية، واضطرابات عمالية، وكان الحل برأي مارغريت ثاتشر، عندما وصلت للسلطة، قلب النظام الاقتصادي البريطاني رأساً على عقب؛ ثاتشر بعد قراءة سريعة للاقتصاد، تأثرت بكاتبين هما فريدريك حايك، النمساوي الأصل، والأميركي ميلتون فريدمان، وكلاهما يدعو إلى تقليص دور الدولة، وتسيُّد السوق. في البرلمان وقفت ثاتشر وقالت: لا يوجد مجتمع، بل يوجد أفراد، قاصدة أن الاقتصاد الاشتراكي الاجتماعي فشل، وأنها ستغلِّب اقتصاد السوق على المجتمع؛ عملياً يعني تقليص الإنفاق العام، وتخفيض الضرائب، ونزع القيود عن الشركات، ووقف إدارة الدولة للمرافق العامة. ولهذا؛ وبهدف إنقاذ الاقتصاد البريطاني من الانهيار، ولتطبيق ما تؤمن به، باعت ثاتشر كل مرافق الدولة للقطاع الخاص، وكان شعارها أن كل مواطن يجب أن يحصل على أسهم، ويصبح شريكاً في الدورة الاقتصادية. ولكن المواطن، القليل الخبرة، واللاهث وراء مكسب مالي، اشترى الأسهم بأسعار مخفضة، وبعد أيام باعها في السوق، ليكسب ربحاً سريعاً، وانتقلت بالتالي ملكية الأسهم إلى شركات كبرى يملك أسهمها أجانب في أوروبا ومناطق متنوعة من العالم؛ وهكذا بجرة قلم تخلت الحكومة عن شركات الكهرباء والماء وسكك الحديد، وصناعات السيارات والفولاذ وغيرها، وتحولت بريطانيا من دولة صناعية إلى دولة خدمات، حتى مساكن الدولة المخصصة لمحدودي الدخل تملكتها شركات مضاربات عقارية أو أغنياء طرحوها في السوق للإيجار، ولم يعد لإصحاب الدخل المحدود قدرة لا على الشراء ولا الإيجار.
فكرة ثاتشر أن القطاع الخاص على خلاف القطاع العام يسمح بالمنافسة ويؤدي حتماً إلى تخفيض الأسعار، وإلى تكاثر الشركات، وتزايد فرص العمل، مأخوذة من نظريات لم تطبق على أرض الواقع؛ وبتطبيقها بدأت عوراتها بالظهور وبالذات أزمة البنوك عام 2008، ثم أزمة كورونا والآن أزمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ففي أزمة البنوك اهتز النظام المصرفي بأسره واضطرت الحكومة برئاسة غوردن براون إلى التدخل والإعلان أنها تضمن كل أموال المودعين في البنوك الموشكة على الإفلاس. فجأة اختفت طوابير المواطنين الخائفين على أبواب البنوك المهددة. هذه الخطوة قلبت مفهوم ثاتشر وأعادت نظرية الاشتراكية للحياة، والدليل أن الحكومة سددت ديون البنوك بأموال دافعي الضرائب، واضطرت إلى أن تديرها بنفسها لتضمن حماية أموال المودعين. ولم يمضِ وقت طويل حتى اضطرت الحكومة في مثال آخر إلى أن تؤمّم خطوط سكك الحديد؛ لأن مالكيها كان همهم فقط الربح، ولم يستثمروا، بل نهبوا ما يقدرون، وأصبح المواطن يدفع ثمن تذاكر باهظة مقابل خدمات متدنية؛ وكذلك كان حال شركة المياه البريطانية التي وصلت ديونها إلى 60 مليار جنيه إسترليني بعدما كانت شركة ناجحة في يد القطاع العام؛ شركة المياه أعطت حملة الأسهم في سني خصخصتها أرباحاً تقدَّر بنحو 85 ملياراً، ولم ينفق مالكوها ما يكفي لتحسينها، بل رفعوا الأسعار، وأهملوا إصلاح المواسير فوصل تسرب المياه إلى تريليون ليتر ماء في عام 2021. ثم جاءت أزمة كورونا التي نسفت كلياً فكرة ثاتشر بأن الدولة لا تتدخل في حياة الأشخاص لأن هذا ليس من اختصاصها. وشاء القدر أن يكون في السلطة آنذاك حكومة للمحافظين مؤمنة بحرية السوق الليبرالية، وبكف يد الدولة عن التدخل في حياة الناس؛ فأصدرت قرارات بمنعهم من مغادرة بيوتهم، بل حظرت زيارة أقاربهم في المستشفيات؛ وتبين لاحقاً أن تلك الترتيبات لم تكن ضرورية. وتواجه الآن الحكومة البريطانية بقيادة كيير ستارمر، بعد فرض ترمب الرسوم الجمركية، أزمة في صناعة الفولاذ؛ هذه الصناعة يعود تاريخها إلى 130 سنة كانت خلالها بيد الدولة إلى أن خصخصتها، وكان آخر المالكين شركة «Jingye» الصينية التي قررت إغلاق المعامل لأنها تخسر، كما تزعم، يومياً 700 ألف جنيه إسترليني رغم تعهد الحكومة البريطانية بإعطائها معونة مالية قيمتها 500 مليون جنيه. هذا الإغلاق دقَّ ناقوس الخطر لكون صناعة الفولاذ حيوية للاقتصاد البريطاني، وتمثل تهديداً للأمن البريطاني؛ ولذلك طالب نواب البرلمان باسترجاع ملكيتها وإدارتها. وهذا ما أكدته الحكومة أن «أمن بريطانيا على المحك» وأنها ستتولى إدارة هذه الصناعة.
الخصخصة لم تتهاوَ بعد إنما يتضح أكثر فأكثر ضررها على أمن المواطن، وتوسيعها للهوة بين الفقراء والأغنياء، وتقليلها فرص العمل، ودفعها الشركات لنقل مصانعها إلى بلدان أقل تكلفة كالصين وفيتنام؛ وهذا كله أدى إلى فقدان ثقة المواطنين بالديمقراطية، وإلى تسيُّد رجال الأعمال، وتفجّر النزعات القومية، وتراجع حقوق الإنسان. ولكيلا تتردى الأمور لا بد أولاً، من حظر خصخصة القطاعات العامة الحيوية، وتقليص سلطات رجال المال على أهل السياسة، وتكبيل الشركات بقوانين، وثانياً، استرجاع فكرة الخير العام المشترك بمعناه أن مصالح وسعادة أكبر عدد ممكن من الناس (المجتمع) تتقدم على سعادة فرد واحد ومصالحه.