في فترة التسعينات من القرن الماضي، حرصت إحدى الصحف الشعبية البريطانية (تابلويد) على نشر مسابقة يومية في صفحاتها الداخلية بعنوان «ابحث عن الكُرة».
المسابقة عبارة عن صورة مأخوذة من مباريات كرة القدم الإنجليزية، تُنشر في كل عدد يومي، لا تبدو الكُرة واضحة فيها في زحمة لاعبين. والمطلوب من القراء البحث عنها وإيجادها، بوضع مربع حول المكان. خصصت الصحيفة جائزة للفائز بقيمة 30 جنيهاً إسترلينياً.
بعد سنوات من توقف المسابقة، تبيّن أن الصحيفة لم تدفع بنساً واحداً لأي متسابق. وهذا يعني واحداً من أمرين؛ إما أن القرّاء المتسابقين أخفقوا في تحديد مكان الكرات في الصور، وهو أمر مستبعَد، وإما أن الصحيفة كانت تتلاعب بهم، بمعنى أنها كانت تغيّر موضع الكرات، تجنّباً لدفع المبلغ، وهو أمر أقرب إلى الحقيقة.
الموقف في المباحثات الأوكرانية - الروسية يبدو لي لا يختلف كثيراً عن وضعية الكرة في المسابقة المذكورة أعلاه. فنحن بصفتنا مراقبين، رغم ما نبذله من جهود وحرص على متابعة الموقف أولاً بأول، لم ننجح حتى الآن، من خلال مجرى المباحثات التي تقودها واشنطن لإنهاء الحرب، في تحديد موضع الكرة في الصورة، وأي جزء من الملعب: هل هي في النصف الروسي من الملعب أم في النصف الأوكراني؟
تصريح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، عقب لقائه مؤخراً في باريس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وممثلين عن بريطانيا وألمانيا وأوكرانيا، يوضح أن قطار السلام الأميركي لم يغادر بعد المحطة. وأن تصريح رئيس الدبلوماسية الأميركية روبيو جاء تلميحاً إلى تململ واشنطن ونفاد صبرها، ورغبتها في الانسحاب من المبادرة. كونها، حسب قول الوزير الأميركي، لديها أولويات أخرى تستحق اهتمامها ووقتها. بعد مرور ساعات على تصريح الوزير روبيو، وخلال زيارة رسمية قام بها لروما مؤخراً، أدلى نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس بتصريح لوسائل الإعلام مفاده أن المباحثات الروسية - الأوكرانية إيجابية وحققت تقدماً. فأين موضع الحقيقة/الكرة في الصورة؟
الرئيس الأميركي دونالد ترمب حسم الأمر فيما بعد بتأكيدٍ على شكل تهديد، يقول فيه إنه ضاق ذرعاً ببطء المفاوضات، وإنه ما لم يحدث تقدم ملموس فسوف ينسحب من الوساطة.
التناقض في تصريح نائب الرئيس ووزير الخارجية الأميركيين مدعاة للسؤال، ولا يمكن تجاهله، ويُفضي بالتحليل إلى جهة أخرى؛ هي أن الإدارة الأميركية تلعب ورقة ضغط على الطرفين المتحاربين، بهدف دفعهما إلى إنهاء الحرب، والتوقيع على اتفاق سلام، وأن الرئيس ترمب يريد أن يضيف نجاحه في الوساطة بين البلدين، وتحقيق السلام، إلى قائمة ما حققه من إنجازات خلال الأيام المائة الأولى من توليه الحكم.
ويبدو أن تصريح الرئيس ترمب أثار قلق موسكو، واضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الظهور على شاشة التلفزيون الروسي في لقاء مع قائد قواته، وخلاله أعلن بشكل غير متوقع هدنةً من طرف واحد خلال عيد الفصح. الهدنة الروسية المعلنة لا تتجاوز 30 ساعة!
ومع ذلك، فإن الحرب لم تتوقف، استناداً إلى تصريح صادر عن الرئيس الأوكراني. والقوات الروسية، حسبما يُنشر من تقارير، تواصل تقدمها ببطء وتزداد اقتراباً من تحقيق أهدافها، وبخسائر بشرية مرتفعة. وأوكرانيا تستصرخ بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي طالبةً العون والدعم.
واشنطن لن تولي تلك الصرخات الأوكرانية اهتماماً، وهي غير مستعدة لتقديم أي دعم عسكري أو سياسي، حتى بعد إعلان أوكرانيا موافقتها المبدئية على توقيع اتفاق الشراكة التجارية مع أميركا لاستغلال الموارد المعدنية الأوكرانية.
العالم لا يزال واقفاً في منطقة الظل بسبب غياب التفاصيل عمَّا حدث في جولات التفاوض السابقة، وما حدث وراء أبواب مغلقة. وبالتحديد، يبرز السؤال: في أيِّ منطقة من الملعب تتموضع الكرة؟
واشنطن تصرُّ على التزام الصمت. وكذلك تفعل كييف وموسكو. لكننا من باب التخمين أولاً، ومن باب ما صدر ووصل إلينا من تصريحات أميركية مؤخراً، من الممكن أن نخلص إلى استنتاج أن المباحثات قد تُستأنف قريباً، وقد تتمكن من تجاوز العقبات وفتح ثغرة في الجدار، في حالة حرصت موسكو وكييف على بقاء واشنطن وسيطاً. أو إذا قررت واشنطن العودة إلى استخدام عصا العقوبات ضد موسكو، لإجبارها على تقديم جزرة صغيرة -تنازلات- تُرضي حكومة كييف، وتشجِّعها على التوقيع على اتفاق السلام.