: آخر تحديث

كلمة من القاموس السياسي

9
8
9

كم أستغرب دخول كلمة «شعر» القاموس السياسي العربي، وبصورة خاصة اللبناني منه. فهذه العبارة، التي لا علاقة لها أساساً بالخطاب السياسي ومفرداته، باتت تتكرّر باستمرار على لسان السياسيين والمعلّقين، في حمأة النقاشات المستعرة على الشاشات وفي وسائل التواصل الاجتماعي. والمستغرب أكثر بكثير من ورودها في هذا القاموس، هو المعنى الذي تحمله. فالمقصود بـ«شعر» في السياسة هو معنى واحد على الدوام لا حياد عنه: الكلام غير الموثوق، غير المسؤول، المتّسم بالخفّة، والبعيد عن الواقع. هكذا أضحت كلمة «شعر» النقيض الأمثل للحقيقة، والموضوعية، والجدّية، والمسؤولية، في الخطاب السياسي الرائج. ولكي يؤكّد صاحب الخطاب على دقة كلامه وصوابه، يبادر إلى الإعلان بأنه «لا يقول شعراً». وغالباً ما يتكرّر هذا الإعلان أكثر من مرّة في الخطاب نفسه، لإعلاء شأن القول وقائله.

مع أن للعبارات حياتها وتبدّل معانيها مع تحوّل الأزمنة والمجتمعات والعقليات، فمن البؤس الشديد أن تصل كلمة «شعر» إلى ما وصلت إليه في القاموس السياسي الراهن في «بلاد الأرز». ومعنى «شعر» المشحون بكل هذه السلبيات ناتج على الأرجح من التأثر ببعض الشعر الزجلي اللبناني، المتّسم بالمبالغة المفرطة، والخيال الأجوف، والصور والتشابيه الفالتة على غاربها، في الوصف والمديح والهجاء والغزل والرثاء وغيره، فدخل مفهوم الـ«شعر» القاموس السياسي من هذا الباب. وأنا أقول «بعض الزجل»؛ منعاً للتعميم، ولأن الشعر اللبناني باللغة المحكية فيه الكثير من الروائع، وهو أبعد ما يكون عن تلك المبالغات المجّانية.

ومع أن المكان لا يتسع هنا لتبيّن ما طرأ من تحوّل على مفهوم الشعر، أقله من القرون الوسطى حتى اليوم؛ مما يتنافى تماماً مع ما آلت إليه كلمة «شعر» في الخطاب السياسي اللبناني. ولا يتسع أيضاً لتحليل التباين العميق بين الشعري والسياسي، وهما عالمان متباعدان. فرغم ذلك سأورد بعض الملاحظات بشأنه.

لقد أصبح مفهومنا للتعبير الشعري بعيداً جداً، على سبيل المثال، عن نظرة أبي فراس الحمداني في القرن العاشر الميلادي بأن «الشعر ديوان العرب»، وهي نظرة عصره أيضاً، التي سادت طويلاً قبله وبعده بقرون. أي إن الشعر، على صعيد المضمون، هو سجلّ الأشخاص والأحداث وأشكال الحياة والمعتقدات والتقاليد والحروب والفتوحات والانتصارات والكوارث والتحوّلات، وما يحيط بها من ظروف مكانية وزمانية. وعلى صعيد الشكل، هو النظم، المختلف عن النثر.

أدّت التحولات الجمالية والشعورية والمعرفية من زمان إلى زوال هذا المفهوم الموروث، ولو أن الكثير من «الشعراء» ما زالوا مقيمين فيه. فالشعر، في ذاتنا المعاصرة، هو التوق إلى التعبير عن «الحالة الشعرية» الصعبة المنال، التي هي ذروة الأدب وكماله، كما هي ذروة مجمل الفنون وكمالها. «والحالة الشعرية» هي «الحالة الجمالية» عينها. وهي لا علاقة لها قط بالتمييز التقليدي بين النثر والنظم. فالكثير من القصائد المنظومة في باب «الشعر» خالية أو شبه خالية من «الحالة الشعرية»، مع أن النظم لا يتنافى مع التعبير عنها. كما أن الكثير من المقاطع النثرية يمكن أن يقترب أو يصل إلى «الحالة الشعرية». وسقوط شرط النظم عن التعبير الشعري أدخل إليه حشوداً من الناثرين، الواصفين أنفسهم بـ«الشعراء»، ومعظمهم لا علاقة لهم بهذه الصفة، وهم لا يدرون. و«الحالة الشعرية» التي هي «الحالة الجمالية» تطول جميع الفنون. إذ نتكلم عن شعرية هذه الرواية أو تلك لدوستويفسكي أو تولستوي أو بروست، أو سواهم، وعن شعرية الرسم الانطباعي أو سواه، وعن شعرية «ليليّات» شوبين أو سواه، وعن شعرية أفلام برغمن أو سواه.

وللعودة إلى العلاقة بين الخطاب السياسي والحالة الشعرية والجمالية، نلمس كم كلمة «شعر» غريبة ومشوّهة في هذا الخطاب. ونشير هنا إلى أهمية حضور البُعد الجمالي في الذات المثقفة؛ لأن صفة «مثقف» لا تكتمل قط من دونها، مهما اتسعت وتعددت مجالات المعرفة. فأين نحن من ذلك؟ وعلى ذكر دوستويفسكي، نعود إلى تلك العبارة المنسوبة للأمير ميشكن في رواية «الأبله»، التي تقول إن «الجمال سينقذ العالم». وقد انتشرت هذه العبارة كونها تحمل، على الرغم من غموض مضمونها، الكثير من الأمل والرجاء، خصوصاً في الأزمنة الصعبة، ومنها زمننا. فاكتساب الشعور الجمالي يرفع البشر إلى درجة من الارتقاء الروحي والإنساني، تنقذهم من سراب العنف والحرب. فالجمال في هذا المعنى، وليس السياسة، سينقذ العالم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد