دفعت الفظاعات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، النخب اليهودية إلى الخروج عن صمتها وتبني مواقف متباينة بعضها يدين بشكل مباشر عمليات القتل الجماعي، وبعضها الآخر يصرّ على البحث عن أعذار وتبريرات لممارسات قوات الاحتلال، وتشير هذه المواقف إلى أن هناك من بين هذه النخب من بات يشعر بقلق جدي من تأثير حرب غزة على مستقبل إسرائيل وعلى صورة اليهود في المجتمعات الغربية التي ظلت تدعم إسرائيل من دون قيد أو شرط؛ وبخاصة أن العديد من السياسيين والمثقفين الغربيين الذين كانوا يتسترون على التجاوزات التي كانت تقترفها الحكومة الإسرائيلية وغلاة المستوطنين مخافة اتهامهم بمعاداة السامية، بدأوا في توجيه انتقادات قوية لفريق نتنياهو الحكومي.
وبالتالي فإن المراقبين يرون أن حائط الصد السياسي والإعلامي الذي شيدته إسرائيل على المستوى الدولي بدأ في التشقق، وأن ما حدث حتى الآن في غزة، لا يمكنه أن يتكرّر مستقبلاً من دون دفع أثمان باهظة على مستوى الرأسمال الرمزي والتاريخي للإنسان اليهودي، ولن يتمكّن الإعلام الموالي لإسرائيل في الغرب أن يجعل من انتقاد الحكومة الإسرائيلية شكلاً من أشكال كراهية اليهود ولا اعتبار رفض العقيدة المتطرفة وجهاً من أوجه معاداة السامية؛ حيث صرّح جاك أتالي، وهو أحد كبار السياسيين الفرنسيين المنحدرين من أصول يهودية، أن نتنياهو يعتبر واحداً من أعداء إسرائيل، كما قال زعيم الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس الأمريكي تشاك شومر ذو الأصول اليهودية، إن نتنياهو عقبة رئيسية أمام السلام، وإن هناك حاجة لإجراء انتخابات جديدة في إسرائيل.
والحقيقة أن مثل هذه المواقف المناهضة لسياسة القتل والعقاب الجماعي ليست فقط وليدة رد فعل مفاجئ على حرب غزة، فقد سبق أن أشار هنري بنا - رويز في قاموسه حول العلمانية، بشأن الأوضاع في الأراضي المحتلة، إلى أن إسرائيل التي أسسها علمانيون، تركت مكانها لإسرائيل مقدسة من طرف متدينين متشددين لا يقبلون إلا بدولة دينية قائمة على الشريعة السماوية، ويسقِطون إيمانهم على أرض يقولون إنها وُهِبت لهم بشكل حصري، كما أن قيام هؤلاء المتدينين المتشددين برفع التوراة كسند ملكية لتبرير إقامة مستعمرات يسمونها نفاقاً «مستوطنات»، لا يمكنه سوى أن يقود الشعب الفلسطيني المضطهد إلى اليأس. ويضيف بنا - رويز أن المستوطنين الإسرائيليين الذين يرفعون الكتاب المقدس كسند ملكية من أجل الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، هم صناع حرب.
يتساءل وزير الخارجية الفرنسي الأسبق أوبير فيدرين في السياق نفسه، قائلاً: «أي صديق لإسرائيل، أي مُعجب بالشعب اليهودي، بديانته وبثقافته، ومثابرته، كان سيتخيل إسرائيل كهذه ذات النزعة القومية الحالية، دولة مُستعمِرة دون عقدة؟ ولكن أيضاً، في ماذا يمكن ليهودي، بعد المحرقة، وفي أي مكان يعيش، أن تكون له ثقة من أجل ضمان وجود إسرائيل، الاعتماد فقط على تفوق جيشها وعلى تأثيرها في الولايات المتحدة، على الرغم من وجود بعض الشخصيات الشجاعة من الذين أسميناهم ب«معسكر السلام»، الذين لم يتوقفوا عن اقتراح طريق آخر، دون نجاح»؟
إنها لمعضلة فظيعة. ويضيف فيدرين في سياق حديثه عن اليمين الإسرائيلي وعن حزب الليكود قائلاً: «إن هذا الحزب مارس بدايةً تأثيراً متصاعداً ثم بعد ذلك صار مسيطراً في العقود الأخيرة داخل دولة إسرائيلية أكثر تطرفاً، وأكثر قومية ودينية، وهي الوضعية التي ازدادت حدّتها بعد وصول اليهود الروس»، وفق الملاحظة التي أكدها بيل كلينتون لكل من جاك شيراك وللمتحدث.
وبموازاة الاعتراف الذي نلفيه من المفكرين اليهود بالعدوان الإسرائيلي، يصرّ فريق آخر على الدفاع عن السياسة الإسرائيلية، مثل الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي الذي أصدر مؤخراً كتابه الموسوم: «انعزال إسرائيل»، مستبعداً لفظ عزلة الذي قد يفيد الاعتراف بالخطأ، ومحاولاً من خلال الانطلاق من هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن يؤكد أن ما حدث هو اعتداء على الديمقراطية وأن الجنوب الشامل وروسيا والصين يقفون إلى جانب ما يصفه ب«التشدد الإسلامي»، ويسعى إلى أن يثبت أن وضعية إسرائيل مماثلة لوضعية أوكرانيا، وكأن الفلسطينيين هم الذين يمارسون القصف العشوائي والقتل والتجويع. ويعلق الباحث باسكال بونيفاس على صدور هذا الكتاب بالقول إن صاحبه يمثل «خدمة ما بعد البيع لجرائم الحرب»، وأن الكتاب سيحظى كالعادة بتغطية إعلامية واسعة.
وهناك أيضاً من المفكرين اليهود من ينفون وجود نفوذ كبير لجماعات الضغط اليهودية، ويؤكدون أن الحديث عن سلطة اليهود هو بمثابة «أسطورة مدمّرة» كانت سبباً في انتشار تصورات نمطية حول اليهود من قبيل «شعب المؤامرة»، وكان ذلك أحد أسباب تشجيع معاداة السامية، بيد أن هذا الاعتراض مردود على أصحابه؛ لأن جماعات الضغط في الدول الغربية تشكل مكوّناً رئيسياً للسلطة في هذه الدول.
نستطيع أن نقول عطفاً على ما تقدم، إن هناك حاجة لتجاوز ما سمِّي تاريخياً ب«الحل النهائي» الذي يعني إقصاءً كلياً للآخر، والعودة من ثم إلى القوانين والشرعية الدولية ولقرارات الجامعة العربية الداعية إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967.