يحكى أنَّه كان في قديم الزمان فرّان هوى النار حتى صارت جزءًا منه. إذ كان بها يشوى العجين حتى يتحوّل إلى خبز مقمّر حمر خدوده، يفوح منه عبير الطازج يدعوك إلى التهامه من دون تردد...
وفي يوم من الأيام، بينما كان الفران يضرب العجين بالطول والعرض، إذ بالنار تحاصره وكأنَّها قوة جذب مغناطيسية، تسحبه ناحيتها بهدوء يضاهي سكون الأفعى أو التمساح عند التخطيط لزرع السم أو البطش وإهراق الدم...
كانت النار تتسلل ناحيته وهو يزداد في انزياحه إليها... اقتربت منه فأدنى... أحاطت به فغنّى... التحمت بجسه فزغرد... وصار الرائي لا يرى منه إلاَّها... وكأنه لم يكن يومًا إلاَّ منها، ولم تكن يومًا إلاَّ له...
وتسللت، وقد اتحدت به منسحبةً إلى إنائها المعدني الأسود، تلتحف به وتتدفأ وتستعيد تشكيلها الأساس ومهمتها في شيِّ العجين ليصبح خبزًا أحمر...
وانقضتِ الأيام، والحديد يشوي العجين حتى كلَّ... فالجوع الذي لم يرتوي يومًا لا يزال يعذِّبه، يقهره، يقلقه، يؤلمه... ومذاق الفرّان تتلاعب به ألسنة نيرانه الألِقة لا تزال تؤرق لياليه الباردة، وتترب كوابيسه العميقة، وتثلج فتحات انبعاث الغاز... وهو لا يريد للغاز أن يتوقف، ولليالي أن تبرد، وللكوابيس أن تطفو...
وصار الحديد يتسرّب إلى المنازل والأحياء والمدن والقرى... لم يترك دارًا إلاَّ وطَرَقَه، لم يترك سترًا إلاَّ وخرقَه، لم يترك سبيلاً إلاَّ وشَطَرَه...
في كل فجوة صنع فخًا، خلف كل أكمَّة نصب كمينًا... وصارت سلاسل الحديد تتوالد من جدرانه... سلسلة تنبعث منها سلسلة، وفرّان جديد ينجذب إليها كما المغناطيس... فرّان كان ليكون، فرّان لم يكن أبدًا، مشروع فرّان، صديق فرّان، أخ، أب، صديق، حبيب، زميل، ابن، طفل، رضيع، وليد، أم، أخت، طفلة، جنين... كلّم أصبحوا هذا الفرّان ينجذبون إلى الحديد والنار فيه تصلى...
وترتعش ألسنتها، تطقطق شراراتها وتفرقع، تتأوَّه تارة صراخًا، تارةً عويلاً، ترةً أنينًا، تارة دموعًا مخنوقة...
والمحرقة لا تكاد تشبع من عشقها هذا، والفران الذي انساق إلى النيران يشوي بها العجين ليصبح خبزًا قاني الوجنتين، صار هو المحرقة، والمحرقة هو، وصار هو الشاوي وهو المشوي وهو الشواء...
ومرّت الأيام... نجا للفرّان حفيد وحفيد وحفيد وحفيد...
حفيد اتخذ من الشفق لونًا، حفيد استقى الليل خليلاً، حفيد تماهى ولحظة الظهيرة، حفيد تناغمَ بما قبل السَّحر... رومانسية في الشكل أخفت في طيّاتها النيران... رومانسية ووداعة ومظلومية حجبت الشاوي والنيران خلف سيل من أمطار التباكي على الفرّان الذي التحم بنيرانه والمحرقة، يُشوى فيها وتشويه...
ومرّت الأيام... واستفاق حفيد في يومٍ يرسم له بيتًا من نسج الخيال! هيكلاً ترتفع أعمدته حتى تلامس السماء، يَحفرُ له عميقًا في غور الأرض ليهتز على السطح العمران، فيقع... ويتدحرج... أنقاضًا... تُرفعُ، تُزالُ، تُمسَحُ وكأنَّ لم يكن في هذا المكان عمرانٌ قط...
رسم، رسم، حفر، حلم، هدم... خطوط تشابكت حتى امتلأ الورق... وتكاملت الخطط... لتُعلن بداية الارتحال...
ونادى الحفيدُ الحفيدَ والحفيدَ والحفيدَ... نادى وتنادوا، وتلاقوا وانطلقوا وتجمعوا حيث الهيكل المرسوم الموسوم كأنَّه الموعود على الرغم من غياب الحجة. فالخطَّ كان قد رُسِمَ على الرمال، والكل المتعاون المتآمر كان بانتظار أن تُرفع الستارة ليبدأ العرض المسرحي الأضخم عبر التاريخ...
رُفعت الستارة، واكتظت خشبة المسرح بالهرج والمرج، إذ اختلط الحابل بالنابل، وتساقط الأطفال كأوراق الخريف، وسالت الأنهار كأنها الخمرة القانية، مدادٌ لا يتوقّف ولا يستريح... أزهار تمرُّ على المقصلة مع عقارب الساعة، تسحق حتى يجفَّ فيها الرحيق ويتبخّر العبير... شكليًا... لأنَّ للأزهار هذه سرًّا سحيقًا عريقًا؛ إذ إنَّ في هذه الأزهار روحًا من الفينيق، ونفَسًا من عبق الأرض القديم، ونبضًا من نفحة الحياة الأولى، وعودًا من قلب الصخر الصنديد، وصلابة الرخامِ تحت إزميل النحات، وخلود السرمديِّ، وحِلمَ الإله...
رُفعتُ الستارة لتكون المسرحية التي تتوالد الفصول فيها من الفصول، والمشاهد من المشاهد. والمصوّر الذي ملك كل الكاميرات يلتقط ما يحلو له من اللقطات... بعضها، ربعها، نصفها، أو كلَّها بعد إعادة تدوير السيناريو، وتعديل الإضاءة، وتبديل أماكن الشخصيات ووضعياتها، ليظهر معه الورد شوكًا، والمياه سيفًا، والمقتول مجرمًا، والمسلوب فاسدًا، والحياة ضنينة...
رفِعت الستارة ولمّا تنزل، ولمَّا تُقفَل، ولمَّا يُعلَن الوصول إلى آخر... لا نهاية، لا ختامًا، لا خلاصًا، لا إنصافًا... سياسة بسياسة، لا ترحم ولا تعرف من الـ«رحمة» إلاَّ حرفين أسقطا راءها وتاءها، وتزعَّما في الحفيد والحفيد والحفيد والحفيد العقل الذي كان بنشأته له الشيطانُ مريدًا، والقلب الذي لا ينبضُ إلاَّ ليضخ السُمَّ لا الدم!
وهذا شبيه الإنسان، فهو مثله يملك هامة، ويملك رأسًا ومتنًا وأطرافًا...
وهذا لا يملك من البشر إلاَّ الشكل... وهذا لا يذكر من آدم إلاَّ«د،م»... أفعاله تخطّت الوحش بدرجات، وفاقت ما أتت به آلهة اليونان عند الغضب، فهدمت وردمت ومحَت ما لم يفعله نيزك ولا بركان!
كائنات لا هي من نار ولا من تراب ولا من نور... كائنات هبطت الأرض لتعيث فيها الفساد، ولتضرب بالإنسانية ضربات تقتلها، تبتلعها، تشوِّهها، تنفيها، تقصيها، تفنيها...
الورد لا يستحقُّ أنْ يُسحق ولا الأطفال! الزيتون لا يستحقُ أنْ يُحرَقُ ولا الإنسان! النهر لا يستحقُّ أنْ يردَم ولا الحق! لكنَّ الحفيد الذي أتى من الفرّان، صار هو المحرقة، وصارتِ المحرقة هي الحفيد، وصار يشوي بعد أنْ ذاق عذاب أن يُشوى واللهيب يرقص رقصات الموت البطيء على لحمه... وادَّعى أنَّ هو الموعود والمُختار... فاغتال المختار على صليبه، ودفن الإنسانية في الجحيم، ونقض الرسالة وكسر اللوح الذي لم يعد محفوظًا، وأيقظ يأجوج ومأجوج، وأعلن القيامة... وصهيون في الهيجاء يتكئ على الروح القدس في «نياحة العذراء» يقبع منتظرًا أنْ تُغسَلَ عنْ اِسمِه وصمَةُ العار وحُجَّةُ المحرقة...