: آخر تحديث

الموسيقى الحاضن الوطني الجميل

30
30
24

تتميز الموسيقى بكونها أكثر الفنون جذباً وتأثيراً اجتماعياً في محاكاة المشاعر الجمالية والروحية لأبناء الأمة أو الوطن، فهي تتخطى حدود المناطقية واختلاف الدين والمذهب والقومية، لتصبح أشبه بالحاضن للوجدان الإنساني. هكذا يصبح الإحساس عندما تستمع لأعمال العبقري الألماني بتهوفن أو الروسي تشايكوفسكي، وتتوحد المشاعر المواطنية لدى أبناء البلد الواحد بالرغم من تعدد انتماءاتهم وثقافاتهم الفرعية. المصريون بجميع تنويعاتهم المناطقية والدينية يجتمعون على موسيقى وأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، اللبنانيون تفرقهم المذاهب وتجمعهم فيروز ويصفيّ مشاعرهم وديع الصافي، العراقيون لا يختلفون على الروح الواحد حين يطربون مع أغاني ناظم الغزالي وحداثة كاظم الساهر وعزف نصير شمه، كذلك السعوديون يصعدون مراكب الوجد حين تعانق أسماعهم صوت طلال مداح أو ألحان محمد عبده، وهكذا السوريون يؤجلون عذاباتهم وفراقهم مع ذكريات القدود الحلبية وترانيم صباح فخري.

أثناء رحلة السنين والاغتراب والسفر القسري، تأخذك محطات الإسترخاء في المقاهي المطلة على البحار أو كافيهات المطارات لتستمع مع آخرين لموسيقى، تحيلك لذكريات أليفة وروائح قديمة، تلتقي نظراتك مع نظرات الآخرين الغرباء مثلك، تشعر بدفء الجملة الشهيرة: "القهوة والموسيقى لا تجعلنا نبقى غُرباء أبداً".

الأناشيد كانت تجمع نساء أور في تراتيل سومرية بانتظار الإله "دموزي " وموسم الربيع والحصاد وسط حقول الشمس الرافدينية حيث تنتصب القيثارة السومرية، وفي عالم جبروت الفراعنة كانت الأنغام وحدها تروّض مشاعر الجبابرة في مصر القديمة، فيذهبون نحو ضفاف النيل ويندمجون مع موسيقاه فيكتسبون صفات القداسة، وهناك في أقصى الخليج كانت أحزان البحارة والنواخذة تنقلها إيقاعات "اليامال"، قبل أن ترسو سفنهم على الشواطئ، مدار يخرج من عمق الذات يحمل شفراتها للآخرين، ثم يعيد تأثيثها... تلك هي الموسيقى في دورة الذات للفرد والمجموع.

كرة القدم تحل بالمرتبة الثانية بعد الموسيقى، وهي الأخرى موعد لقاء مجتمعي وموسيقى حركية ترسم إيقاعاتها الأقدام والأرواح الراكضة وراء الكرة لتحقيق الهدف، وذاك الهدير البشري القادم من المدرجات يشكل خلفية متوهجة في لحظة الفوز فيكتمل اللحن.

فلاسفة ومفكرون وعلماء وأدباء في عالم بناء الحضارة والحداثة عبر العصور كانت الموسيقى محرضهم للوصول السليم لقراءة نوتات الحياة وتعرجاتها وأعماقها غير المكاشفة.

أبرز علامات الموت الحضاري التي تسود العالم منذ عقدين أو أكثر تتمثل بانحسار مساحات الموسيقى في المجتمع البشري، ونعني بها موسيقى التربية الجمالية التي ترتقي بالذائقة وتمارس تأثيرها في صقل الإحساس والتعامل الأخلاقي بين البشر، كما أرادها الفيلسوف الفارابي. نعم، تنتشر الآن أنماط جديدة في العالم ظهرت في السنين الأخيرة، وتمتد بمساحات بشرية واسعة، لكنها موسيقات صاخبة ضاجة، كأنها انعكاس لعالم الحروب وصدى للمخاطر التي تهدد الوجود الإنساني بكوارث الفناء وثقافة الموت والكراهية، فتنعكس بسلوكيات صارت تندفع نحو منهجيات الغاب والتوحش والتطرف.

الموسيقى مرآة عاكسة لحضارة المجتمع وحركيته وثقافته الروحية، وكانت التسوية الجمالية والعاطفية تتقارب في  حضور أنيق ومظاهر راقية أخلاقياً للجمهور حين يستمع لآهات أم كلثوم أو عبد الباسط عبد الصمد وهو يردد ألحان السماء!

اليوم نحتاج أن نجتهد في البحث عن اكتشافات جديدة في عالم الموسيقى، ولا نعتمد فقط "نستولوجيا" الأنغام التي شغلت عوالم أبعد من نصف قرن مضى. نحتاج تأسيساً بنيوياً جديداً لعالم موسيقي يقارب وقائع الثقافة الصلبة لعالم اليوم وانفجاراته وتشظياته المتعددة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف