لطالما مثّل الاستبداد في سوريا عبئًا ثقيلاً على كاهل المجتمع بكل مكوناته، وترك نظام الأسد بصمته كواحد من أكثر الأنظمة الدكتاتورية التي عرفها العصر الحديث قسوةً وفسادًا. وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة المستبدة قد تسعى إلى تسويغ أفعالها تحت ذرائع سياسية أو أمنية، فإن نظام الأسد تجاوز كل هذه التسويغات ليتحول إلى آلة لقمع الشعب ونهب ثرواته، ما دفع كثيرين إلى قبول أي بديل عنه، حتى لو كان نسخة أخرى من الاستبداد. هنا تكمن المعضلة الكبرى، فاستبدال نظام دكتاتوري بآخر يحمل العقلية والسلوكيات ذاتها لن يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج المأساة بأشكال جديدة.
ظلال الاستبداد والتوق إلى التغيير
لم يكن نظام الأسد مجرد نموذج لدولة بوليسية فحسب، بل هو حالة عميقة من التماهي بين السلطة والجريمة. فالسجون التي أصبحت رمزًا للرعب، والمعتقلون الذين فقدوا حياتهم تحت التعذيب، والفساد الذي انتشر في كل مفاصل الدولة، شكّلت أركانًا لدولة استبدادية تعتمد على الخوف كوسيلة للبقاء. هذا الواقع دفع الكثير من السوريين إلى الانسياق وراء أي بديل يعِد بالخلاص، دون التوقف لتقييم ماهية هذا البديل أو أهدافه.
هنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن قبول استبدال نظام مستبد بآخر؟ الإجابة ببساطة هي "لا"، فالتغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بإزالة جذور الاستبداد وليس مجرد تغيير واجهاته. قبول البدائل المشوَّهة يعني استمرار معاناة الشعب تحت غطاء جديد، وربما أكثر وحشية.
فقدان البوصلة والقيم
إذ إنه في ظل هذه الظروف، تبرز مشكلة فقدان القيم السياسية والمجتمعية التي كانت تشكل أساسًا للتماسك الوطني. لقد ساهمت العقود الطويلة من القمع والتشويه في خلق حالة من التشظي الفكري والعاطفي، حيث أصبح الكثيرون مستعدين للتحالف مع أي قوة تحمل شعارات مناهضة للنظام، حتى لو كانت تحمل أجندات مشبوهة.
هذا التشظي دفع أطرافًا عديدة إلى الانغماس في صراعات داخلية أضرت بالشركاء الطبيعيين في الوطن. البعض انجرف نحو العداء للكرد بسبب خلافات أيديولوجية مع حزب العمال الكردستاني، رغم أن هؤلاء أنفسهم قد استفادوا في فترات مختلفة من الحزب ذاته لتحقيق مصالحهم. هذه الانقسامات لا تخدم سوى أجندات إقليمية ودولية تعمل على إضعاف سوريا وشعبها.
ضرورة رؤية واضحة للمرحلة المقبلة
لا يمكن لأيّ مشروع تغييري أن ينجح دون رؤية واضحة وشاملة. الأولوية القصوى يجب أن تكون لمعالجة قضايا الاستبداد والسجون وحقوق الإنسان والفساد. هذه الملفات هي الجذر الحقيقي للأزمة السورية، ولا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها.
ولكن معالجة هذه الملفات تتطلب تعاونًا حقيقيًا بين الأطراف السورية كافة، بعيدًا عن منطق إدارة الحرب أو تصفية الحسابات. فلا يمكن بناء سوريا المستقبل إلا من خلال مرحلة انتقالية تعيد الثقة بين المكونات وتفتح المجال أمام الحوار السلمي لحل الخلافات.
التعاون من أجل بناء سوريا جديدة
التحدي الأكبر الذي يواجه السوريين اليوم هو القدرة على الانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة التعاون. إن الحرب لم تجلب سوى الدمار والخسائر، ولن يؤدي استمرارها إلا إلى إضعاف الجميع. من هنا، يجب على الأطراف جميعها العمل على تأسيس مرحلة جديدة تُبنى على أساس التعاون لمواجهة الجريمة المنظمة، وإنهاء كافة أشكال الاستبداد.
التعاون لا يعني التغاضي عن الجرائم أو التنازل عن الحقوق، بل يعني التزامًا جماعيًا ببناء دولة تقوم على القانون والعدالة والمساواة. هذا الالتزام يتطلب شجاعة في مواجهة الحقائق والاستعداد لتقديم تنازلات من أجل المصلحة الوطنية.
دور الكرد في مستقبل سوريا
الكرد جزء أصيل من النسيج السوري، وأي محاولة لتهميشهم أو معاداتهم لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام. صحيح أن هناك من يعادي الكرد بسبب خلافاته مع حزب العمال الكردستاني، ولكن تعميم هذا العداء ليشمل شعبًا بأكمله هو ظلم لا يقلُّ خطورة عن الاستبداد الذي عانى منه السوريون لعقود من الزمن، فالكرد، مثلهم مثل بقية السوريين، يطمحون إلى حقوقهم في إطار دولة عادلة تضمن المساواة بين مكوناتها جميعاً. إن أي عداء لهم أو محاولة لإقصائهم لن يخدم سوى أجندات القوى التي تسعى إلى إضعاف سوريا. على العكس، يجب العمل على بناء شراكة حقيقية معهم ومع مكونات المجتمع السوري كلها.
التحدي الأكبر: بناء نظام جديد لا يعيد إنتاج الاستبداد
في ظل كل هذه التحديات، يظل التحدي الأكبر هو بناء نظام سياسي جديد يقطع أو ينهي ممارسات الماضي. هذا النظام يجب أن يقوم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام التنوع الثقافي والعرقي والديني. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة سياسية حقيقية واستعدادًا للعمل الجاد من قبل الأطراف كافة. فلا يمكن بناء دولة جديدة دون إزالة كافة أشكال الاستبداد والفساد، ودون مواجهة صريحة مع الماضي لمعالجة آثار الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري. إذ لا يمكن لأي تغيير أن يكون حقيقيًا إذا لم يعالج جذور الأزمة السورية. استبدال نظام مستبد بآخر يعني - فقط - استمرار المعاناة بأشكال مختلفة. على السوريين أن يتعلموا من الماضي وأن يعملوا على بناء دولة تقوم على أساس القانون والعدالة والمساواة.