مطلع عام 2025، توقفت إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية، بسبب رفض كييف تمديد عقد "ترانزيت" مع موسكو، وهو ما ضاعف حجم الإشكاليات التي تواجه أمن الطاقة الأوروبي.
يحصل ذلك بينما تعاني القارة العجوز، ولا سيما القوى الاقتصادية البارزة فيها، أزمات هائلة على صعيد إمدادات الطاقة، غداة انقطاع شريان طاقوي حيوي في أيلول (سبتمبر) 2022، وهو خط "السيل الشمالي" (1) وخط "السيل الشمالي" (2)، وكانا يغذيان أوروبا بالغاز الروسي الذي يتميز بأسعار تنافسية، نتيجة تعرض أنابيبهما لتفجيرات، بيّنت تقارير وتحقيقات عدة أنها نفذت بواسطة عناصر المخابرات الأوكرانية، وبقرار من الضفة الأخرى لمحيط الأطلسي في واشنطن، أشرفت على متابعة تنفيذه الاستخبارات الأميركية.
مصالح أميركية
تشير التقارير والتحليلات إلى أنَّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوشك على مغادرة البيت الأبيض، هي من حرّضت كييف على عدم تمديد عقد خط الترانزيت، الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حيال الموقف الأميركي من الحلفاء الأوروبيين وسط شبهات عن استهداف واشنطن أمن الطاقة الأوروبي لإجبارها على شراء الغاز الأميركي المسال، برغم الفجوة الهائلة في أسعاره مقارنة بالغاز الروسي، وهو ما ضاعف من التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات في دول القارة العجوز، ناهيك عن دخول اقتصاد بعض دولها البارزة، مثل ألمانيا التي تعد القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، في حالة ركود لا تزال آثارها الكارثية وتداعياتها تتوسع باضطراد.
لم تكد تمر أيام على توقف إمدادات الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية، حتى تعرضت محطة "روسكايا" في بلدة غاي كودزور بإقليم كراسنودار في روسيا، والتابعة لخط "السيل التركي"، إلى هجوم عبر 9 مسيرات انتحارية أوكرانية في 11 كانون الثاني (يناير) الجاري. إلا أنَّ الدفاعات الروسية نجحت في إحباط هذا الهجوم بالكامل، حيث تم إسقاط كل المسيرات بلا أضرار، ما خلا ضرر طفيف تعرض له مبنى قياس الغاز في المحطة.
إثر هذا الهجوم، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن قناعته بأنَّ أميركا لا تريد أن ينافسها أحد في أي مجال، وخصوصاً في مجال الطاقة، وهي من أعطت الضوء الأخضر للأنشطة الإرهابية التي تستهدف تدمير أساسيات أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي. إذ يقوم الأميركيون بدفع عملائهم الأوكرانيين لتخريب خط أنابيب الغاز "السيل التركي" بعد تخريب "السيل الشمالي".
الشريان الأخير
ويعد خط "السيل التركي" الشريان الأخير الذي يمد أوردة الاقتصاد والحياة في عديد الدول الأوروبية بالغاز الروسي الزهيد التكلفة. يتكون "السيل التركي" لنقل الغاز من روسيا عبر قاع البحر الأسود إلى تركيا، ومن ثم نحو دول أوروبية، من أنبوبين:
• الأول، مخصص لتركيا وتستفيد منه لتأمين جزء كبير من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
• الثاني، يمرّ عبر تركيا نحو دول جنوب وشرق أوروبا، وتستفيد منه بلغاريا واليونان ورومانيا ومقدونيا وصربيا والبوسنة والهرسك والمجر وسلوفاكيا.
إقرأ أيضاً: موسكو وسياحة رجال الأعمال
ويبلغ إجمالي الطاقة الاستيعابية لـ"السيل التركي" 31.5 مليار متر مكعب سنوياً، وجرى افتتاحه في كانون الثاني (يناير) 2020. وترتفع موثوقية الاتهامات الروسية بالاستناد إلى التحقيقات التي أجريت في قضية تفجير “السيل الشمالي” (1) و(2)، وعرقلة واشنطن طلب موسكو المتكرر عقد جلسة لـ"مجلس الأمن الدولي" من أجل مناقشة القضية.
بالإضافة إلى تعرض "السيل التركي" نفسه لمحاولات تفجير سابقة في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، نجحت السلطات الروسية في إحباطها وإلقاء القبض على المجموعة المنفذة، وكلهم من المواطنين الأوكران.
القارة الرهينة
لا تقف حدود الشبهات حول ضلوع أميركا في استهداف أمن الطاقة الأوروبي على ما سبق، بل تشمل أيضاً تصريحات سابقة لكبار المسؤولين في الإدارة الأميركية، تحدثوا فيها علانية عن ضرورة تدمير خطوط أنابيب الغاز الروسي، سواء "السيل الشمالي" أم "السيل التركي".
ومن بين تلك التصريحات، تصريح سابق للرئيس الأميركي جو بايدن قال فيه إنّه "يجب إنهاء السيل الشمالي في حال حصول غزو روسي لأوكرانيا". علاوة على دراسات لمراكز بحثية أميركية معروفة بقربها من دوائر صنع القرار في واشنطن تصب في الاتجاه عينه.
التداعيات السياسية
ومع ذلك، ما يزال الاتحاد الأوروبي رهينة لدى المصالح الأميركية، ولم تبادر القوى المؤثرة في قراره بممارسة ضغوط جدية للحد من الاستهداف الأميركي لأمنها الطاقوي. وهذا بالذات ما أنتج ديناميكيات سياسية داخل دول القارة العجوز، أفضت إلى صعود شعبية أحزاب تضع على رأس أجندتها إصلاح العلاقة مع موسكو، عبر بوابة الغاز الروسي وأنابيب "السيل الشمالي" ونظيره "السيل التركي".
بعض هذه الأحزاب نجحت في الوصول إلى السلطة، وبعضها الآخر يضع هذا البند على رأس برنامجه الانتخابي.
كل ذلك يكشف عن حجم الضرر الاستراتيجي الذي ألحقته أميركا بحلفائها الأوروبيين. رغم ذلك، نجد أن قادتها وزعماءها ما يزالون يصرون على ممارسة الإنكار، وتطبيق سياسات تقوض من أمن بلدانهم، ولا سيما الإمعان في تغذية استمرار الصراع في أوكرانيا عبر حزم هائلة من الدعم الذي تقدمه لحكومة كييف.
إقرأ أيضاً: أنقرة تضاعف عدد موظفي "ديانت"
بيد أن انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب لولاية ثانية، أيقظ الكثير من الهواجس والمخاوف لدى القادة الأوروبيين، خصوصاً أنهم خبروا سياساته التي تتمأسس حول مبدأ “أميركا أولاً” على حساب حلفائها في حلف شمال الأطلسي “الناتو” وبروكسل. إنما تكمن الإشكالية في تلكؤ هؤلاء القادة في اعتماد سياسات وقائية ترسم الحد الأدنى من التوازن المطلوب في العلاقات الثنائية، التي تميل كفتها بشبه كامل لحساب واشنطن ومصالحها، وسط حال من الاهتزاز السياسي الساخن الذي تعاني منه فرنسا وألمانيا بالدرجة الأولى.
فهل يفضي الاستهداف الأميركي لأمن الطاقة الأوروبي إلى تحول سياسي يجعل بروكسل تمضي في طريق مصالحة موسكو؟ أم أن القارة الأوروبية ستجثو على قدميها وتذعن للمصالح الأميركية رغم شروطها المجحفة والقاسية؟