جمال الكشكي
الخرائط في انتظار من يعيد إليها الاستقرار. العالم بات يتغير بشكل سريع ومتلاحق، قضية الوجود مفتاح الحفاظ على الأمن القومي للشعوب، في اللحظات الفارقة لا بد من كلمة قاطعة.
الشعب اللبناني قال كلمته، وقرر كسر الطوق والدائرة الجهنمية، التي فرضت عليه لعقود طويلة، وازدادت شراسة في العامين الأخيرين، الشغور الرئاسي داخل «قصر بعبدا»، صار لبنان بلا رأس، تتلقفه أمواج وصراعات قوى داخلية، وأخرى خارجية.
لم تبق في قوس الصبر منزعاً لدى اللبنانيين. أزمات اقتصادية طاحنة، وحواجز سياسية غير مسبوقة، أطماع إقليمية، تعرف مدى أهمية الجغرافيا اللبنانية، تم اختطاف القرار اللبناني لتحويله إلى ميدان رماية، لتنفيذ مخططات لم يكن لبنان طرفاً فيها، ولا راغباً في أن يكون أحد أضلاعها.
تداخلت الأوراق وتشابكت الحسابات، وتقطعت الخيوط، وتصادمت الخرائط، وبات مستقبل لبنان مهدداً، لا بد من قرار صحيح في هذا التوقيت الصعب، اللبنانيون أدركوا أن المخاطر تزداد، والحصار في طريقه للاتساع، وأن الدولة في سبيلها إلى التلاشي، وأن النزاعات والصراعات الطائفية لن تشفع للشعب اللبناني أمام المستقبل.
كل هذه القراءات والمخاوف كانت أيضاً تتفق مع التقديرات العربية والإقليمية والدولية، خصوصاً المحبة للبنان. اتفاق عام على ضرورة عودة لبنان إلى لبنان، من خلال انتخاب شخصية بحجم التحديات التي تحاصره في هذا التوقيت.
العماد جوزيف عون، نادته اللحظة الوطنية، فتوافق عليه الجميع، فقد حظي بـ 99 صوتاً من أصل 128 صوتاً، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الانتخابات اللبنانية، وحتى الذين لم يصوتوا له يدركون أنه الأجدر بقيادة لبنان في هذه المرحلة.
لم تكن قيادة الدولة اللبنانية أمراً هيناً، فالملفات شديدة التعقيد، والتحديات كبرى، والأزمات متلاحقة، وضاغطة على المستويين الداخلي والخارجي.
فعلى الصعيد الداخلي، هناك أزمات مزمنة في انتظار قرار الرئيس عون، أبرز هذه الأزمات تلك المتعلقة بإعادة ضبط مؤسسات الدولة وسيادتها على المجتمع اللبناني، وتوحيد السلاح بيد الدولة وحدها، وهو الملف الأكبر الذي يجب أن يعالج من جذوره، فمعروف أن هناك فصائل وقوى وأحزاباً تمتلك أسلحة ثقيلة، يجب ألا يحملها سوى الجيش الوطني.
هذا المطلب هو الرئيسي والمشروع من قبل كل اللبنانيين حتى لا يعود لبنان إلى مأساة الحرب الأهلية أو اختطاف قراره، فقرار الحرب والسلام يجب أن يكون بيد الدولة وحدها، أما الأزمة التي تسارع الزمن في البحث عن حلول لها، فهي الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان في أعقاب الفراغ السياسي، والشغور الرئاسي، فقد انهارت الاستثمارات، وبعضها خرج من البلاد، وغادر رجال الأعمال إلى بلدان أخرى.
تقريباً، توقفت كل مؤسسات الدولة، وأصيبت بالشلل التام، مما أثر في الوضع اللبناني على شتى المجالات، لذا لدى الشعب اللبناني أمل كبير في نجاح الرئيس عون، واستعادة عافية الاقتصاد، كما يأمل اللبنانيون في تدفق الدعم العربي والدولي، وضخ الدماء في شرايين الاقتصاد اللبناني، التي أصيبت بالانسداد خلال الفترات السابقة.
وسط هذه التحديات والأزمات الكبرى، يشعر اللبنانيون أن ثمة شعاعاً في الأفق يؤشر إلى انفراجات متعددة، واستقلالاً حقيقياً في اختيار من يعبر عن الأوضاع الوطنية اللبنانية في تلك اللحظات العصيبة.
وتجلى ذلك ليس فقط في انتخاب الرئيس عون، بل تأكد في اختيار شخصية رئيس الوزراء، القاضي نواف سلام، رئيس محكمة العدل الدولية بلاهاي، الذي يتمتع بمصداقية لدى قطاع عريض من اللبنانيين، وتبدو المؤشرات إيجابية، فقد ترك له حرية اختيار الوزراء المناسبين لتلك اللحظة المواتية.
أما على المستوى الخارجي، فقد لقي انتخاب عون ارتياحاً عربياً وإقليمياً ودولياً، وحمل اختياره رسائل عدة، في مقدمتها: أن لبنان الجديد سيعود فاعلاً أساسياً في القضايا العربية، وصوتاً مهماً في المحافل الإقليمية والدولية.
وأن هذا البلد، صاحب الحضارة والثقافة، ورائد الفن والموسيقى، والحاضنة التي أنجبت كبار المبدعين في شتى المجالات، لا يمكن له أن يظل في الهامش، أو يجلس تحت غبار الصراعات والمعارك الوهمية التي تحاك له من أطراف خفية وأخرى علنية.
ثمة رسالة أخرى عميقة تتعلق بصدام الخرائط، فللمرة الأولى في التاريخ تعترف كل دول المنطقة والعالم بأن يكون لبنان مستقلاً في قراره الوطني، كأنه في حالة استقلال آخر عن كل التدخلات العالمية أو التأثيرات السياسية.
وهذا يؤكد أهمية الجغرافيا اللبنانية في ضبط إيقاع مفهوم الدولة الوطنية، التي يجب أن تكون شأناً عربياً عاماً، وترفض خرائط الفوضى أو انهيار العواصم العربية التي لا يزال بعضها يعاني آثار ما يسمى «الربيع العربي»، فالآن بات الدرس واضحاً، وبات تكراره يمثل حماقة استراتيجية.