بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" يؤسس لإنهاء الحرب بشكل تام احتفل أبناء قطاع غزة بنهاية الكابوس والجحيم الذي عاشوه لمدة 470 يوما تقريبا. واحتفلت الفصائل التي قاتلت في غزة وفي مقدمها "حماس" بما أطلقت عليه اسم "انتصار"، وشاركتها في الاحتفال بالنصر مجموعة الفصائل المرتبطة بإيران من لبنان إلى العراق وصولا إلى القيادة الإيرانية على ارفع مستوى. طبعا اقتصر الاحتفال من خارج الفصائل بنهاية العمليات القتالية على الشعب الفلسطيني، وعلى الشعوب التي آلمها كثيرا ما حصل من مجازر بحق اهل غزة. والأهم انه كان احتفلا بالخلاص من الموت والقهر والذل. والحقيقة ان الفارق بين الاحتفالين كان كبيرا. احتفال الفصائل التي ورطت أبناء غزة حرب انتهت بمجرزة لا مثيل لها، والفصائل الأخرى التي تورطت وورطت بلدانها لاسيما في لبنان في حرب انتهت بهزيمة محقة بعدما أسفرت عن مقتل الالآف، وتدمير مناطق واسعة من البلاد. اما الزعم بان عملية "طوفان الأقصى" انتهت بانتصار، فمتروك لتفكير أكثر عقلانية ولعقول راجحة. وثمة من قال: بماذا تحتفلون بعد خراب البصرة؟!
في مطلق الأحوال، انتهت الأمور باتفاق لوقف إطلاق النار لم يتم التوقيع عليه نهائيا حتى الآن. وهو اتفاق وقف لإطلاق النار مقسم إلى عدة مراحل تتطلب الكثير من الجهد من أجل حمايته من الانهيار عند كل مفصل من مفاصله. ومن هنا سيكون من السابق لأوانه الركون إلى نيات الطرفين أي إسرائيل وحركة "حماس"، وخصوصا ان ما يسمى "اليوم التالي" في غزة لم يحسم بعد. ولم يعرف بعد من سيحكم القطاع. وكيف سيتم اخراج القيادات الكبيرة للحركة وبعض الفصائل، وفي مقدمها حركة "الجهاد الإسلامي" المرتبطة عضويا بطهران و"الحرس الثوري" فيها. فضلا عن نزع السلاح من القطاع بشكل شامل. والحقيقة انه لا تزال هناك زوايا غامضة في الاتفاق لجهة لكيفية إدارة القطاع، وإعادة أعماره بعد نزع السلاح وخروج القيادات العسكرية والرئيسية مع عدد من المقاتلين إلى المنفى لمدة لاتقل عن 15 عاما على الأقل. إذا ليس صحيحا ان الحرب انتهت بل الصحيح انها في طريقها إلى الانتهاء إذا ما توافرت مجموعة من الشروط لا نعتقد انها متوافرة اليوم.
وقد يكون اهم عوامل الاطمئنان إلى ان الحرب لن تعود قريبا هو تعب وإرهاق الشعب الفلسطيني المنكوب بشكل لا مثيل له ربما في التاريخ الحديث، وأيضا تعب الإسرائيليين عموما، والإرهاق الذي يعاني منه الجيش الإسرائيلي. من هنا التعويل هو على مناخ الشعبين اللذين ينشدان كل من زاويته نهاية للحرب والهدوء.
في لبنان، هزيمة محققة لحقت بـ"حزب الله". والبيئة الحاضنة له تسعى إلى التقاط أنفاسها. وتشير المعلومات إلى أن الشعارات التي كانت تطرب لها الآذان صارت مناسبة لإمالة الرؤوس والانتقال إلى شيء آخر. البيئة الحاضنة لذراع إيران في لبنان بدأت تبتعد رويداً رويداً عن دائرة تأثير البروباغاندا السياسية التي كانت مؤثرة فيما مضى. لقد بدأت مرحلة جديدة في لبنان عنوانها تراجع قدرة "حزب الله" وحركة "أمل" على احتكار النفوذ والتأثير على بيئة حاضنة انتهى بها الأمر إلى نكبة تاريخية نتيجة المغامرات السياسية والأمنية والعسكرية على مدى عقدين من الزمن، فضلاً عن اشتداد عزلتها الداخلية التي ظهرت بشكل واضح خلال ما سُمِّي بـ"حرب الإسناد" لغزة، إضافة إلى العزلة العربية والدولية التي حولت بيئة بأسرها إلى بيئة "مشبوهة" أمنياً في عشرات الدول من أوروبا إلى الأميركيتين، وصولاً إلى أفريقيا وآسيا. ولعل هذه الحالة تفاقمت كثيراً في الدول العربية الكبيرة والفاعلة بعدما تورط "حزب الله" ضمن وظيفته الإقليمية في أعمال هددت أمن دول عدة في المنطقة.
عملياً، وفيما احتفلت طهران ومجموعة فصائلها بنكبة غزة و"الساحات"، بدا واضحا للمراقبين ان المنطقة تغيرت كليا. وان الدئرة الجيوسياسية المحيطة بإيران تحولت من دائرة حماية إلى دائرة تهديد، في وقت يقيم النظام في الداخل فوق برميل بارود يمكن ان ينفجر في أي لحظة، ليغير الواقع في الداخل الإيراني نفسه، حيث كانت تجربة الموجة الاحتجاجية الواسعة التي انفجرت بعد قتل الشابة الإيرانية مهسا اميني على يد "شرطة الاخلاق" مؤشرا لمدى تراجع شعبية النظام بعد أربعة عقود على قيام الجمهورية الإسلامية.
من هنا نقول إن الاحتفال بوقف إطلاق النار في غزة بوصفه انتصاراً يعكس حالة عمى سياسي فاضح أصاب طهران والبقية الباقية من محورها في المنطقة!