لم يكن أبو الطيب المتنبي مجرّد شاعر تفيض قريحته بالحكم وتلتهب أبياته بالكبرياء، بل كان نبيّ رؤيا، يتجاوز الشعر كفنٍ بياني إلى الشعر كقدرٍ ووعي، كان يرى نفسه أكبر من الزمان، وأوسع من المكان، وأقوى من الجسد، ومن هنا تحديداً لم يكن يكتب لزمنه، بل لزمنٍ لم يأتِ بعد، ولم يكن يطارد المجد كما يرى الرواة المختلفون له أو عليه، بل يتلبسه وكأنّه خُلق ليكون ناطقاً باسم الكينونة العربية كلها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ففلسفة المتنبي تنبع من شعوره العميق بفرادة الذات، فهي عنده ليست مجرد كيان بشري، بل كائن متعالٍ، قادر على فرض رؤيته على العالم، وتغيير مجراه إن شاء، ولهذا لا يرى للضعف مبرراً، ولا للانهزام سبيلاً، فالإنسان عند المتنبي يُقاس بقدر طموحه لا جسده، وبقوة فكرته لا بضعف مآله.. كما يرى:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
وهنا تتجلّى فلسفة الإرادة لدى المتنبي، الإرادة بوصفها العنصر الأسمى في تشكيل الإنسان، إنّه يؤمن بأن الحياة ليست سوى ميدانٍ يتصارع فيه الأقوياء، لا جسديًا فحسب، بل روحيًا وذهنيًا، ومن ثمّ فإن الخلود لا يُمنَح، بل يُنتزع، يصنعه الإنسان بفكره وعزيمته وموقفه، ولعل أعظم ما يدل على خلود رؤياه في الحياة هو بقاء شعره نابضًا، يقرؤه الناس اليوم كما لو كُتب لهم، لا لأزمنة مضت، إنّه شاعر كل عصر، لأن الإنسان في جوهره لم يتغير: ما زال يسعى للخلود، ويصارع الضعف، ويتأرجح بين الحلم والانكسار، فقد كان ومازال وسيظل الصوت الذي يذكّرنا بأن الإنسان يمكن أن يعلو على زمنه، وأن ينجو من الموت بشعرٍ يبث فيه روحه، وموقف يثبّت فيه ذاته:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ
فهذا البيت، يلخّص فلسفة «الأنوية المبدعة»، حيث تصبح الذات الخلّاقة مرجعًا للكون، لا تُفسّر من خارجه، بل تُفَسّر هي به، وكأنّه يقول لست مجرد شاعر، بل مركز ثقلٍ لغوي ومعنوي، يهتدي به التاريخ، كما أن المتنبي يقدّم رؤيا فلسفية للوجود ذاته، فهو لا يرى في الموت نهاية، بل يعتبر أن قيمة الحياة ليست في مدّتها بل في أثرها. فقد يموت الجسد ليبقى الاسم، وفي هذه الرؤيا تتجاوز الفلسفة كل التهويمات الشعريّة، لتكون مشروعًا وجوديًا متكاملاً، يجعل من الشعر وسيلة للخلود، ومن المجد طريقًا للحقيقة، لقد عاش المتنبي في عالمٍ يضج بالتقلّب، من بلاط سيف الدولة إلى سجون كافور، ومن أحلام الإمارة إلى وحشة المنافي، ولكنه لم يغيّر صوته، ولم يتنازل عن رؤياه، ظلّ يقول الحقيقة كما يراها، حتى وإن جرّت عليه السيوف. وفي النهاية، قُتل وفي فمه بيت شعر، ليبقى حيًا فينا أكثر من قاتله، وفي زمانٍ يذوب فيه الأفراد في صخب الجماعة، ويُختطف فيه الفكر لصالح المظاهر، تبقى رؤيا المتنبي صوتًا حيًّا يعيد للإنسان مركزه، وللكلمة معناها، وللحياة خلودها.