الطريقُ السياسية بين النَّجفِ وبغدادَ مقطوعةٌ منذ أن أعلن المرجعُ الأعلى للشيعة في العالم، آيةُ الله علي السيستاني، قبل سنوات، رفضَه استقبالَ أي مسؤول عراقي. أمَّا الطَّريق ما بين النَّجف وطهران، فهي غيرُ مستقرة ويسودُها منذ فترةٍ حذرٌ وتوتراتٌ غيرُ معلنة، وفقاً للعارفين بخفايا العلاقةِ بين الطرفين؛ حيث تتمسَّكُ النجفُ بوضوحِ بمواقفها ووجهةِ نظرها، فيما تستمرُّ طهران في استخدام طبيعتين؛ أولى دبلوماسية ظاهرة، وثانيةٍ باطنية، هدفُها محاولاتُ السَّيطرة أو التقليل من تأثير النجف.
من هُنا، فإنَّ تبادل الرسائل المباشرة وغير المباشرة، المعلنة أو غير المعلنة، بين النجفِ من جهة، وبغدادَ وطهرانَ من جهة أخرى، يعزّز الاعتقاد بأنَّ التباينَ في الرؤية بينهما وصل إلى مستوى استراتيجي، ولم يعد مجردَ خلافٍ حادّ على طريقة إدارة الدولة، بل بدأ الكلامُ عن مستقبل النّظام السياسي العراقي.
من الواضح جدّاً أنَّ الثنائي (طهران – بغداد) يعمل بكل ما تبقَّى له من أدوات ونفوذ من أجل إعادةِ إنتاج السلطة القائمة على ثنائية «المال والسلاح»، باعتبارها الضَّامنَ الوحيدَ لاستمرار نظام 2003 كما تأسَّس، ومنع إجراء أي تعديلات أو تغييرات جوهرية على طبيعته. هذا التصلب في المواقف، والإصرار على مواجهة الداخل العراقي بكل مكوناتِه، والخارج، خصوصاً الولايات المتحدة، دفع النجفَ ومعها بيوتاتٌ دينيةٌ تاريخية، ونخبٌ شيعيةٌ مؤثرة، ورأيٌ عامٌّ وطنيٌّ، إلى التَّنبيه من مخاطر صدامٍ داخلي شيعي – شيعي، وشيعي مع مكوناتٍ أخرى، وصدامٍ خارجي قد يكلف العراقَ، والشيعة خصوصاً، خسائرَ كبيرة.
يقول الزميلُ علي السراي، في تقريرِه الصحافي، الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط»، يوم أمس (الخميس)، بعنوان «طهران تتراجع أمام نفوذِ النَّجف في بغداد»، إنَّ مرجعيةَ النَّجف ترصد «لحظة مقلقة غير مسبوقة يمرُّ بها النّظام السياسي، يفقد فيها قدرتَه على الاستمرارية في ظلّ تحولاتٍ متسارعة في المحيط الإقليمي، وقد يفشل في اجتياز أخطرِ اختبار منذ تأسيس النّظام الجديد عام 2003». يسندُ علي السراي ما كتبَه إلى مجموعة من المقابلات مع شخصياتٍ من البيئة النَّجفية، أي ما يمكن وصفه بنخب متدينة، ما يعكس جوّاً شيعياً تقليدياً بدأ يستشعر القلقَ والمخاطرَ على مستقبل العراق، وفي الوقت ذاتِه يستشعر القوةَ والقدرة على الحدّ من نفوذ طهران المتراجع أصلاً في العراق، وخصوصاً لدى البيئة الشيعية.
كعادتِها في لحظات الخطر، تعيد النَّجفُ تحديد الأولويات، وهي مصرةٌ على ضرورة بناء الدولةِ ومكافحة الفساد. وقد عادت وذكّرت البيتَ السّياسيَّ الشيعيَّ المسلَّحَ بثوابتها، وذلك بمناسبة الأولِ من محرم، عندما أكَّد أحدُ وكلاءِ المرجعية، الشَّيخ عبد الهادي الكربلائي، في 17 يوليو (تموز) الفائت، على ضرورةِ حصر السلاح بيد الدولةِ وتقويةِ مؤسساتها. في الوقتِ ذاته، يحاول «الإطار التنسيقي» الحاكمُ، تمريرَ قانونِ «الحَشد الشعبي» وتحويله إلى وزارة دفاع موازية عقائدية، في حين تطالب النَّجفُ بالحفاظ على عناصر «الحشد»، ولكن بشرطِ دمجهم داخلَ المؤسسات.
في المواجهةِ بين مشروعين – الدولة والنظام – تدرك النَّجفُ أهميةَ دورِها في حماية الدولة والشيعة في العراق، فيما تحاول طهرانُ إعمال يدها من خلال النظام في العراق، من دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية لهذه الأغلبية، التي قد تدفع ثمنَ هذه الطموحات الخارجية مجدداً، أو في معركة دفاعها عن نفسها.