: آخر تحديث

الجامعات... من المحاكمة إلى الحوكمة

2
2
2

مصلح الحارثي

من «المحاكمة» إلى «الحوكمة»... ليست مجرد مفارقة لغوية، بل تحوّل جوهري في الوعي المؤسسي ومنهجية الإدارة الجامعية. ففي بعض البيئات، ما زال الخوف من الاجتهاد والتردد في المبادرة يطغى على المشهد، حيث يُنظر إلى الخطأ كخطر، والرأي كعبء، والصمت كملاذ آمن. وفي مثل هذا المناخ، تتراجع الثقة، وتخبو روح الابتكار. أما حين تسود الحوكمة، يتغيّر المشهد؛ فالنظام لا يكون أداة قمع، بل إطارًا للعدالة، والمساءلة تتحوّل من وسيلة للعقاب إلى أداة للتطوير، والمبادرة تُصبح قيمة يُحتفى بها، لا مغامرة يُتوجّس منها.

يشهد العالم سباقًا متسارعًا نحو التميّز في قطاع التعليم الجامعي، تقوده الشفافية والمساءلة والتمكين، لا الرتابة أو المركزية. ولم يعد مقبولًا أن تُدار الجامعات بأنماط فردية تستند إلى التأويل، أو تُحاسب العاملين بناءً على الانطباعات، بينما تتجه الأنظمة الجامعية المتقدمة نحو مؤشرات أداء معلنة، وهياكل حوكمة مستقلة، وثقافة مؤسسية تحتفي بالمبادرة الواعية، لا تُقيدها بالخوف ولا تُصادرها بالحذر.

وإذا شهدت بعض البيئات الجامعية فتورًا في المبادرات، فليس ذلك لغياب الكفاءات، بل لافتقاد الأمان المؤسسي الذي تمنحه الحوكمة. فعندما يُنظر إلى الاجتهاد بعين التحفّظ لا بعين الاحتضان، وتُصبح النية الحسنة حجة للتثبيط بدلًا من التمكين، تتراجع الثقة وتضيق المساحة أمام الإبداع. وما زالت بعض الممارسات تُعيق الحراك المؤسسي؛ كالتردد في منح الصلاحيات، أو غموض معايير التقييم، أو التعامل مع المبادرات بروح الحذر بدلًا من التشجيع. وهنا تبرز الحوكمة بوصفها المنظومة القادرة على تحويل تلك الممارسات من أدوات تقويض إلى أدوات دعم، حين تُبنى القرارات على قيم العدالة والوضوح، ويشعر الجميع بأمان مهني ينعكس على جودة الأداء ونمو الثقة المؤسسية.

وفي بعض الأوساط الجامعية، تتردد مقولات مثل: «من خاف سلم»، و«قلنا ولم يُؤخذ برأينا»، كمؤشرات على غياب الإصغاء، وتراجع الثقة، وتحوّل الصمت إلى وسيلة للنجاة. وهنا تتجلى أهمية الحوكمة الرشيدة في بناء بيئة تُعزز الثقة، وتُكرّس ثقافة الإصغاء والتقدير، لا التوجّس والانكماش. فالحوكمة لا تقتصر على اللوائح، بل هي منظومة تمكين تُحيل الرأي إلى قيمة، والمبادرة إلى حق، والمساءلة إلى مسار تطوير.

وقد شكّل نظام الجامعات الجديد في المملكة نقلة نوعية في هذا الاتجاه، بمنحه الجامعات استقلالية منضبطة في الجوانب الإدارية والأكاديمية والمالية، وتوسيع نطاق صلاحياتها التشغيلية ضمن إطار مؤسسي يربط الصلاحيات بالمساءلة، ويُرسّخ مبادئ الشفافية والحوكمة. وهو انسجام واضح مع رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تمكين الجامعات، وتحريرها من البيروقراطية، وتعزيز تنافسيتها محليًا ودوليًا.

وقد بدأت بعض الجامعات السعودية بالفعل في تشكيل وتفعيل مجالس الأمناء، واعتماد مؤشرات أداء، ونشر تقاريرها السنوية، إلا أن التفاوت لا يزال قائمًا بين جامعة وأخرى، بل وبين كليات داخل الجامعة الواحدة. وبعض القرارات لا تزال تُتخذ بردود أفعال أو اجتهادات فردية، مما يُربك الأداء، ويُضعف الثقة، ويُشوش على الكفاءات.

وفي بعض البيئات، تتغيّر المسارات بتغيّر القيادات، لا بناءً على مراجعة مؤسسية مدروسة، بل لتباين في المرجعيات والاهتمامات. وقد تتوقف مبادرات ناجحة فقط لأنها لا تنسجم مع التخصص الأكاديمي أو التوجه الشخصي. وهنا تتجلى الحوكمة كضمانة لاستقرار التوجهات، وحماية للتراكم المؤسسي، وتحييد للقرارات عن التأثيرات الفردية، دون أن تعيق مرونة القيادة أو تُقيد فرص التطوير.

فالجامعة التي تُدار برؤية مؤسسية متزنة، تستند إلى الأنظمة، وتسترشد بالمؤشرات، وتُشجع المبادرات وتحمي أصحابها، هي الجامعة التي تُنتج المعرفة، وتُخرّج القادة، وتُسهم في بناء كوادر وطنية مؤهلة، تُعزز التنافسية وتدعم اقتصادًا مستدامًا. أما الجامعات التي تفتقر إلى مرجعية مؤسسية واضحة، وتتأثر قراراتها بالاجتهادات الفردية، وتضيق بالآراء المختلفة، فقد يصعب عليها ترسيخ الاستقرار أو تحقيق رسالتها بكفاءة.

فالتاريخ لا يخلّد الجامعات التي ترددت خشية الخطأ، بل يحتفي بتلك التي جعلت من كل تجربة درسًا، ومن كل نظام أساسًا للتطوير، ومن كل مبادرة لبنة في بناء المستقبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد