ليست اللغة في رقي أبعادها وأدواتها ودلالاتها مجرد وسيلة للتواصل أو تعبير عن الأفكار فحسب، بل هي في عمقها انعكاس لوعي الإنسان ومستوى فكره. وعندما تُستخدم هذه اللغة بشكل تحريضي أو للإقصاء، فإنها تتحول إلى أداة تهدم جسور التفاهم وتبني جدران الكراهية بين أفراد المجتمع. في هذه المقالة، نسعى إلى تفكيك خطاب التحريض القوموي الطائفي العفن الذي يروج تحت راية الوطنية، لنسلط الضوء على ازدواجية هذا الخطاب الذي يهدف إلى إشعال الفتنة بين مكونات الوطن.
العنصرية تحت عباءة الوطنية
ما تمت الدعوة إليه تحت عنوان "تحرير الجزيرة السورية" من قبل ما يسمى بملتقى "ثوار" الجزيرة" مثال حي على محاولة تسويغ مشروع إقصائي تحت شعار الوطنية. هذه الدعوة، التي تتنكر في لباس الوطنية، هي في جوهرها سلاح مسموم يهدف إلى طمس الهوية الكردية وتفكيك النسيج الاجتماعي في المنطقة. كما أن استخدام مصطلحات مثل "الثيران الهائجة" الذي نعت به كل من استنكر مثل هذه الدعوة إلى مذابح بحق الكرد، لا يعبر فقط عن ازدراء الآخر، بل يكشف عن عقلية ترى في كل من يختلف عنها تهديدًا وجوديًا يجب إزالته. هذه اللغة لا تقتصر على الهجوم على الكرد فحسب، بل تسعى إلى خلق حالة من العداء لا يمكن إصلاحها، ما يضاعف الأزمة ويغذي الكراهية، ويجعلنا نستفسر قائلين: وهل نحن أمام لسان حال بقري - في مبقرة ما؟ إن هذه اللغة لا تليق بنا كسوريين أحرار: عرباً وكرداً ومكونات أخرى، رضعنا محبة الشركاء حقاً، ولي كشخص تجربة مع هذا الحليب الكردي - العربي، ومن هنا أفتخر بكل عربي أصيل محب لأهله وشركائه في الوطن الذي يجمعنا!
ومن الغريب أنَّ هؤلاء "الثوار" الذين يدّعون الحرص على وحدة الوطن والشعب السوري، لم يظهروا أي رد فعل عندما تعرضت مناطق مثل سري كانيي وعفرين للاحتلال. ترى: أين كانت أصواتهم حينما نُهبت الممتلكات وهُجّر السكان الكرد من بيوتهم، وتم قلع أشجار زيتونهم التي زرعها أجدادهم وكانت رمزًا للسلام وجعلها هؤلاء البرابرة الغزاة اللصوص مجرد أحطاب للتجارة والحرق؟ لماذا غابوا عن الساحة عندما كان النظام البعثي يقمع الشعب الكردي ويمنع حتى تسجيل أسماء المواليد بالكردية كأبسط مثال؟ صمتهم في تلك اللحظات المفصلية يكشف عن ازدواجية مواقفهم، إذ يظهر بوضوح أن قضاياهم لا تتعلق بالدفاع عن الوطن، بل بتنفيذ أجندات ضيقة تخدم مصالح معينة.
تركيتان محتلة ومنقذة
أمريكتان إمبريالية ومقدسة
يستبشر بعضهم كلما أطلق أحدهم تصريحًا ضد الكرد أو تهديدًا من قبل أميركا أو تركيا أو الفصائل الموالية لها، إذ يعتقدون أنَّ هذه التصريحات ستتيح لهم الفرصة لطرد الكرد من ديارهم واحتلال أراضيهم وسبي نسائهم كما فعلت داعش مع إيزيدييهم. في هذا السياق، يتصور هؤلاء أنهم يقوّون موقفهم ويعزّزون قوتهم، دون أن يدركوا أن الاستقواء بالقوى الخارجية - عندما يتم من جهتهم أيضاً - لا يمكن أن يحقق استقلالًا حقيقيًا أو يساهم في بناء مجتمع مستقر. هؤلاء الذين يروجون لهذه الأفكار، لولا الدعم التركي، لما تمكنوا من نشر مثل هذه الثقافة أو تحريك أية رافعة إعلامية تدعم أهدافهم. في الواقع، فهم لا يعتمدون إلا على تلك القوى المتحكمة في المعادلات الإقليمية، متجاهلين أنَّ هذا "التحالف" ليس قوة حقيقية بل مجرد تلاعب سياسي، حيث يخدم مصالح خارجية بعينها، وعلينا جميعاً الانتباه إليها و"نزع أشواكنا بأيدينا" كما يقول المثل الكردي الشهير.
إذ إنه مع كل تضامن مع قسد أو دعم لها، من قبل: أميركا، يسارع هؤلاء إلى تكذيبه وتكفير من يناصرهم، معتبرين إياهم خونة يتعاونون مع المحتل الخارجي. في الوقت الذي يتوسلون فيه أمريكا لكي تقف ضد مواطنيهم الكرد، وأنهم أنفسهم يتخذون الاحتلال التركي حليفًا ضد أبناء شعبهم، وهو أمر يتنافى مع أبسط مفاهيم الوطنية. إن هذا السلوك العدواني لا يؤثر على انتمائنا لسوريا، بل يزيد من تمسكنا بمبادئنا الوطنية. نحن سوريون، ولا نعبأ بهذا الخطاب المليء بالحقد والكراهية. فهو، إلى جانب كونه خطابًا مُعاديًا للتعايش، يعد محاولة لتمرير أجندات خارجية تسعى للتقسيم والتفتيت.
خطاب التحريض: جريمة ضد التعايش
لا شك أن خطاب التحريض القائم على شيطنة الآخر ليس جديدًا في تاريخ البشرية، لكن هذا النوع من الخطاب دائمًا ما يؤدي إلى كوارث. وصف الكرد أو المدافعين عن التعايش بـ"الثيران الهائجة" يهدف إلى تجريدهم من إنسانيتهم، وهو بمثابة تمهيد لمشاريع إقصائية أو حتى إبادة. مثل هذه التصريحات تستهدف بالأساس القوى التي تمثل التنوع في المجتمع السوري، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعد نموذجًا للشراكة العربية الكردية السريانية الآشورية إلخ، وتعمل على مقاومة الإرهاب وبناء نموذج مشترك للحياة. ورغم أنني، في مقالاتي التي كتبتها في أول الثورة السورية، دعوت إلى تشكيل قوة من جميع أبناء المنطقة على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم ومللهم، إلا أنني اتخذت موقفي من ب ك ك- ب ي د بسبب الانتهاكات التي قام بها، وبسبب رفضي لوجود ب ك ك في مكاننا، وهذا ما جعلني ويجعلني على رأس قوائم المحارب عليهم من قبل بعض صبيتهم، وما أفعله هنا هو انطلاق من إنسانيتي وكرديتي وسوريتي وأخلاقي التي رباني عليها أبي!
وعندما يتم مهاجمة هذه القوى تحت ذرائع واهية، يصبح من الواضح أن الهدف ليس "تحرير الجزيرة" بل ضرب كل محاولات التعايش المشترك وخلق حالة من الفوضى التي تخدم أعداء الشعب السوري. هذه الهجمات الإعلامية لا تهدف فقط إلى تقويض المقاومة، بل تسعى إلى خلق واقع جديد يتسم بالصراعات الداخلية التي تصب في مصلحة القوى الخارجية.
الفتنة والدعوة للمذابح
إنما يسمى بملتقى "ثوار الجزيرة" الذي يدعو إلى إشعال فتيل الفتنة في أهم منطقة في الجزيرة السورية، لا يزال يعكس أسلوبًا عنصريًا فاشياً يهدد العيش المشترك في المنطقة. بينما تتعامل الإدارة الجديدة- حتى الآن ووفق تصريحاتها المطمئنة- بعقلانية العلاقة مع الكرد، يسعى العنصريون إلى نسف هذا التعايش بدعوى الثأر من قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وهم لا يقبلون حتى بالأحزاب الكردية التاريخية التي تأسست منذ عام 1957، التي لم تدعُ يومًا إلى الانفصال، ولا ب ك ك ذاته الذي خدم سوريا أكثرمن كل الفصائل المسلحة وأكثر من حمى ذوي "ثوار2025". إنَّ "الرؤية المشتركة" بين قسد والمجلس الوطني الكردي - والتي اطلعت عليها منذ حوالى سنتين أو أكثر أو أقل - لا تتضمن أية دعوة للانفصال، بل تقوم على بناء شراكة وطنية قائمة على التفاهم والتعاون. أما من يسمي سواه بـ"الثيران الهائجة" فهو يصوّر ذاته لسان حال مبقرة مضطهدة، بعيداً عن حالة التعايش بين أهلنا الكرد والعرب وشركائهم مكانياً، وهذه دعوة صريحة لنشر الفتنة بين "المكونات" المختلفة، حتى ولو كان ذلك على حساب الدماء والمعاناة. شخصيًا، ومع أهلي أو عائلتي من العرب والسريان والأرمن والآشوريين، لا أتصور كما هؤلاء جميعاً مدينة قامشلي دون جميع مكوناتها، بما في ذلك اليهود. إنهم جزء لا يتجزأ من هذا النسيج المشترك.
ازدواجية الخطاب والمواقف
الذين يدّعون أنهم يسعون إلى "العيش المشترك" ويهاجمون الكرد بحجة "الانفصال"، نجدهم في الوقت ذاته يدعمون رؤية النظام السوري الآفل صاحب هذه المقولة الكاذبة، الذي كان وما زال عبر شبح رؤاه العفنة يمثل أكبر تهديد لوحدة سوريا والتعايش بين مكوناتها. إذ كيف يمكن لمن يهاجم الكرد بسبب ما يسميه "الانفصال" أن يدعو في الوقت نفسه إلى الوحدة الوطنية، وهو يسير على خطى النظام البائد الذي تأسس على التفريق والتقسيم وجعلهما قاعدة أساسية لحكمه؟ هذه ازدواجية واضحة في الخطاب، ولا يمكن تجاهلها.
هم يزعمون محاربة "التغيير الديمغرافي" في المناطق الكردية، بينما يغضون الطرف عن سرقة ممتلكات الكرد في عفرين وسري كانيي وكري سبي، حيث تم استقدام غرباء من مناطق بعيدة للإقامة في بيوت الكرد الذين تم تهجيرهم. في الوقت ذاته، يتحدثون عن "انتهاكات" قوات قسد - وأنا ضد كل انتهاك من قبلها ومن قبل سواها - بينما يتجاهلون المجازر والانتهاكات التي ترتكبها الفصائل الموالية لتركيا، والتي تدمر المنطقة وتؤدي إلى تهجير الكرد وتدمير مقدراتهم.
لو كان هؤلاء الكتاب الكرد الذين يدافعون عن قسد - ويتم استهدافهم بعد استهداف السياسي والعسكري - في اللحظة التي يتنبأ فيها بعض هؤلاء الزاعمين بضعفها - أي قسد - مطلقين الزغاريد في إطار الحرب النفسية المدرب عليها جيداً، انتهازيين، لما فعلوا ذلك. أجل، فلو كانوا انتهازيين حقًا، لهرولوا إلى دمشق لإيجاد موطئ قدم أو قلم يضمن لهم مكانًا، لكنهم ببساطة يلتزمون بمواقفهم المبدئية، من أجل أهلهم وشركائهم، لاسيما إن من بينهم من دافع ولايزال يدافع عن السوريين جميعاً على حد سواء، وأعدني أحد أوائل هؤلاء وليعودوا إلى مدونتي، كمثال، خلال أربعين سنة ونيف. إنهم لم ولا ولن يساوموا على مبادئهم، وهم يُنتقدون جميع الأطراف بحرية، كما فعلنا نقدياً في مواجهة ب ك ك وقسد، ويقطعون كل المنافذ. منافع المكاسب، عليهم كأفراد؛ لأنهم ببساطة مبدئيون، لا يقبلون الاستغلال أو التبعية لأية جهة كانت.
العدالة الانتقالية لا العدالة الانتقامية:
تبييض السجون وإلغاء المحاكم عبر القتل الميداني
في ظل غياب الاستقرار واستمرار الفوضى السياسية وغياب دستور شرعي يحدد معالم المستقبل، تبرز ممارسات إجرامية تُرتكب تحت ذرائع مختلفة، ومنها مذابح تُنفذ بحق بعض العلويين بحجة أنهم من بقايا النظام، وهي اتهامات لا يمكن أن تثبت إلا عبر قضاء رسمي في مشروع - "العدالة الانتقالية" لا تحت ستار وجنح "العدالة الانتقامية" وعبر محاكم ميدانية لا تستغرق مدة أحدها بحق فرد أو مجموعة مجرد دقيقة زمنية، إذ قد يكون بينهم من ينتمي فعلاً إلى النظام السابق أو أن تكون يده ملطخة بالدم، ولكن ليس هكذا تكون العدالة وفق قوانين وشرائع الأرض والسماء، ولكن ما يتم من مذابح لا يسمى إلا جرائم إرهابية، إن كانت ضد العزل، عبر "مقتلات" جماعية ميدانية، إن الطابع الإرهابي لهذه الجرائم يثير المخاوف بشأن إمكانية انتقال هذه المذابح إلى الكرد وغيرهم من السوريين الأحرار على اختلاف قومياتهم وأديانهم، خصوصاً في ظل وجود من لا يزال يثأر لصدام حسين، بل إن بعض الكتابات والمقالات التي كتبها بعضهم وتعود إلى ما بعد 2004 تسوغ ذبح الكرد أو تدعو إلى تشويه صورتهم وإبادتهم، كما أن بعض التعليقات المنشورة حديثاً تُظهر نوايا مبيتة لارتكاب جرائم ضد الكرد، وكأن مصيرهم مكتوب مسبقاً بأيدي من يحملون الكراهية ضدهم، ومن بينهم شخصيات مثل الكاتب المدعو غازي عبد الغفور، الذي عرف بعدائه الشديد للوجود الكردي منذ عقود، وظهرت كتاباته الداعية إلى الإبادة سواء أكانت قبل ربع قرن أو بعد 2004، وكنت قد رددت عليه ذات مرة.
الفلتان الأمني المصحوب بصمت رسمي تجاه المجازر التي تصلنا صورها القليلة يوحي بوجود سياسة ممنهجة لتصفية الخصوم خارج إطار القضاء، ما يعني عملياً تبييض السجون وإغلاق أبواب المحاكم لصالح جماعات إرهابية تتعمد ارتكاب الجرائم بهدف الإساءة إلى أي إدارة قائمة. ومن هنا، يصبح وجود قوة سورية جامعة لكل السوريين أي لكل القوميات والأديان والمكونات أمراً ضرورياً، وليس هناك حالياً سوى قسد كقوة قائمة تحمل هذا الطابع. لكن الأعداء التقليديين للكرد لا يقبلون بأية صيغة لحضورهم، فحتى لو قيل لهم إننا سنستبدل قسد بجيش من الملائكة الكرد، فلن يقبلوا، ولو استُبدلت بيشمركة روج بقسد، لما كان ذلك كافياً لهم، إذ إن هدفهم الأساسي هو تصفية القضية الكردية ورموزها بالكامل، مستغلين حالة الفوضى الراهنة العابرة قبل استقرار دمشق.
ومن المفارقات أن بعض هؤلاء هرولوا إلى دمشق لاستثارة القيادة هناك ضد الكرد، لكنهم عادوا خائبين، ما دفعهم إلى طرح دعوات مشبوهة مثل ما يسمى ب "ملتقى ثوار الجزيرة" تحت شعار "معاً لتحرير الجزيرة"، بعد حملات ممنهجة لتشويه صورة الكرد. وأمام هذا الوضع، يمكن تقديم أي ملفات تدين قسد إلى الحكومة الجديدة إن وُجدت أدلة، لكن الاستعانة بقوى ترفع راية داعش يعكس نوايا مسبقة لتنفيذ مذابح جماعية ضمن سياسة إبادة الكرد. وهنا لست أبرىء قسد لأنني ممن عملوا على توثيق الكثير من الانتهاكات التي ارتكبت باسمه، من قبل قنديل التي كانت تهيمن عليه.
وحدة المصير بين الكرد والعرب والسريان والأشوريين والأرمن في سوريا: قسد في مواجهة مشاريع الإقصاء والتدمير
في خضم الفوضى التي تعصف بسوريا، يتضح أن وحدة المصير بين الكرد والعرب والسريان والآشوريين والأرمن لم تعد مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لمواجهة التهديدات الوجودية التي تحاصر وتهدد جميعنا. إن المشروع الذي يسعى لضرب التعددية والتنوع في الجزيرة وسوريا بأكملها ليس جديداً، بل هو امتداد لمحاولات قديمة تسعى لاستئصال مكونات أصيلة، تارة باسم القومية، وتارة أخرى تحت غطاء الدين. واليوم، تتجدد هذه المشاريع عبر محاولات استهداف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي أثبتت، عبر مسيرتها، أنها القوة السورية الأكثر وطنية منذ بداية الحرب وحتى اليوم.
إن قسد - الآن - جيش سوري متكامل، وهي في نظري الجيش الأول، ليس فقط من حيث التنظيم والقدرة القتالية، بل لأنها كانت الأكثر التزاماً بسوريا كوطن، متجاوزة أيديولوجيا كل الفصائل التي تشكلت منذ اندلاع الحرب. ومن حيث القوة، فإنها تتفوق على كل جيش سوري منذ فجر الثامن من آذار 1963، مروراً بانقلاب 1970 وحتى اليوم. ولهذا، فإن المطلوب اليوم هو رأسها، ليس لأجل السلام أو الاستقرار، بل من أجل إعادة داعش، أو إنشاء كيان مشبوه تحت مسمى "ثوار الجزيرة"، في مشروع لم يعد يخفى على أحد، ولا مقدرة لهؤلاء ضد - قسد - إلا عبر التحول إلى حصان طروادة للمحتل التركي، ليقوم بمحاربة التجربة بالوكالة عنهم، كما تم في عفرين، لتظل بيوت وأملاك وثروات الجزيرة ملكاً لهم، من دون الكرد الشركاء.
هؤلاء ينظرون نظرتين متناقضتين إلى أميركا، أولاها: إنها عدوة وثانيتهما أنها ملاك عندما يتعلق الأمر بتصريحات تتعلق بوقف دعم قسد لمحاربة الإرهاب، بل إنهم يتبركون بأردوغان الذي احتل أكثر من منطقة في سوريا، كما تم احتلال أكثر من منطقة سورية بتركيا منذ الثلاثينيات نتيجة تواطؤات دولية، لمتها تتحول إلى المنقذة لهم عندما يتعلق الأمر بالكرد!؟
وأؤكد دائماً أنه لا يمكن تعميم التوجهات الخبيثة على جميع من يرفعون هذا الخطاب أو غيره، فبينهم المغرَّر بهم، ممن وقعوا في فخ العواطف والشعارات الزائفة، رغم أن من بينهم من يثأر من قسد نتيجة الضربات التي وجهها لكل من: داعش وفصائل الارتزاق الممولة من تركيا وقطرإلخ.. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في رؤوس الفتنة، الذين يستغلون المشاعر الشعبية لبناء خطاب هش ضد جميع السوريين، ليس لمصلحة وطنية، بل خدمةً لأجندات غير نظيفة. هؤلاء ليسوا دعاة حرية، بل صناع خراب، يخططون لإعادة إنتاج الإبادة والتهميش ضد الكرد وغيرهم، تماماً كما حدث في مراحل سابقة.
إنَّ وحدة المصير بين مكونات سوريا ليست مجرد فكرة نظرية، بل ضرورة لحماية جميع السوريين من مشاريع الإقصاء. والتاريخ أثبت أن كل محاولة لاستئصال مكون معين تنتهي بانهيار شامل يصيب الجميع. واليوم، فإن التهديد ليس موجهاً فقط للكرد، بل لكل من آمن بسوريا التعددية، وهو ما يجعل قسد في قلب المعركة، ليس فقط عسكرياً، بل كمشروع سياسي وطني في وجه مشاريع الفوضى والتقسيم.
الفتنة ليست حلاً
التحريض على الاقتتال بين العرب والكرد ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو جريمة وطنية. تفتيت النسيج الاجتماعي في الجزيرة السورية لا يخدم سوى مصالح القوى التي تسعى إلى تقسيم المنطقة وهيمنتها على مقدراتها. هذه الحملات التي تهدف إلى إشعال الفتن بين مكونات الشعب السوري تزيد من تفاقم الأزمة وتعقد عملية الحل. إن الطريق الوحيد لإنقاذ الوطن من هذه الفوضى هو الحوار البناء الذي يعترف بتنوع الشعب السوري ويضمن حقوق الجميع.
حقيقة، إن من يستخدم مصطلحات مثل "الثيران الهائجة" ليس مجرد إساءة شخصية، بل هو نتاج وتجسيد لأزمة فكرية وأخلاقية يعاني منها. الوطنية ليست مصطلحًا يمكن استغلاله لتسويغ الإقصاء أو التحريض ضد الآخر. وإن دعوة الفتنة ودعوة ارتكاب المجازر بحق الكرد أو ما تسمى بدعوة “تحرير الجزيرة” ليست إلا قناعًا يخفي وراءه نوايا تهدف إلى طمس الهوية الكردية وإلغاء وجودهم، وثأراً لهزيمة داعش ونصرة للفصائل المرتزقة في عفرين وسري كانيي وتل أبيض. الكرد ليسوا غرباء في هذه الأرض، بل هم جزء أصيل من تاريخها وثقافتها. هم لم يكونوا يومًا جزءًا من مشاريع تقسيم، بل كانوا دومًا حراسًا لهذا الوطن وساهموا في بنائه وحمايته.
إلى أين يقود خطاب الكراهية؟
التاريخ يعلمنا أن خطاب الكراهية لا يؤدي إلا إلى المآسي. من رواندا إلى البوسنة، كانت خطابات التحريض هي البذرة الأولى للأزمات الإنسانية الكبرى التي عصفت بشعوب كاملة. إذا استمر هذا الخطاب الذي يهدف إلى تقسيم الشعب السوري، فإننا مهددون بمزيد من الانقسام والدمار. لا يمكن أن يكون هناك وطن حقيقي بدون احترام لجميع مكوناته وبدون قبول التنوع الذي يشكل نسيج المجتمع السوري.
إن من يدعو إلى الوطنية عليه أولاً أن يحرر عقله من الكراهية، وأن يتخلص من لغة الإقصاء والتشويه. فلا يمكن بناء وطن قوي ومتقدم إلا من خلال الاعتراف بحقوق جميع أبنائه واحترام تنوعهم. الكرد ليسوا أعداء، بل هم شركاء في هذا الوطن. أي محاولة لتحريض مكون ضد آخر هي جريمة ضد الإنسانية. دعونا نختار الحوار على لغة التحريض، وأن نبني وطنًا يعكس التنوع ويضمن العدالة لجميع أبنائه.