على هامش القمة الـ11 لمنظمة الدول التركية في قيرغيزستان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، جرت حادثة بين أنقرة وأستانا، حرص الطرفان على إبقائها طي الكتمان، كل لأسبابه، لكنها أرخت بثقلها على العلاقات الثنائية بينهما، وخاصة لدى كازاخستان الدولة التي تتمتع بأهمية استراتيجية وجيوسياسية في آسيا الوسطى، جعلت كبار اللاعبين الدوليين يتنافسون على خطب ودها.
ومع ذلك، فهي لا تزال تعطي أولوية لتطوير وتعميق العلاقات مع تركيا، ثنائياً أم عبر المنظمات الإقليمية التي يشتركان في عضويتها، انطلاقاً من الروابط التاريخية والجغرافية والعرقية والثقافية. بيد أنها تريد أن تكون هذه العلاقات قائمة على إطار من التوازن الاحترام المتبادل والشراكة بما يصب في مصالح البلدين وجيرانهما، وترفض أسلوب الوصاية والإملاءات، والسلوك المشوب بالعجرفة والتعالي لأنقرة.
تركيا وإظهار اليد العليا
قبل أسابيع قليلة من انعقاد القمة المشار اليها، بادر ممثلو السفارة التركية في العاصمة القيرغيزية بشكيك، عبر اتصالات مع نظرائهم الكازاخستانيين، إلى تنظيم لقاء ثنائي بين الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيره الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، على هامش المناسبة.
تشير مصادر قيرغيزية كانت حاضرة وطلبت عدم ذكر اسمها لحساسية الموقف، إلى أنَّ الجانب التركي أصر وبشكل غريب وغير مبرر على إظهار اليد العليا على ما تصفهم بالأشقاء الترك، من خلال المطالبة بإلحاح شديد، أن يأتي اقتراح القمة من الجانب الكازاخستاني. حتى أنهم طلبوا إرسال خطاب إلى السفارة التركية في بشكيك، كي تبدو القمة بين الرئيسين وكأنها بناء على طلب كازاخستان. لم يرضخ الدبلوماسيون الكازاخستانيون، ورفضوا الخضوع لمثل هذا النوع من الإملاءات في ظل انتفاء المبرر، مما أجبر نظرائهم الأتراك على إرسال الاقتراح عبر القنوات الدبلوماسية، كما تقتضي الأصول.
بعد ذلك، وحسب المصادر القيرغيزية، قام فريق البروتوكل التركي، وبشكل مستقل، بتجهيز غرفة الاتصال بين الرئيسين، فرتبوا الأعلام ووسائل المقابلة الأخرى، بهدف إظهار أنَّ الجانب الكازاخستاني من يستهل الاجتماع، وينتظر وصول الرئيس التركي. وهذه ليست المرة الأولى التي تقدم أنقرة على مثل هذه السلوكيات التي تريد تسويقها في وسائل الإعلام وشبكات التواصل لتغذية الشعور القومي لدى مواطنيها، رغم أنَّ هذه الأساليب تعد خرقاً فاضحاً للأصول واللياقات الدبلوماسية المتعارف عليها.
ما حصل أثار حفيظة فريق البروتوكول الكازاخستاني، المطلع على الأسليب التركية ودوافعها، لذلك طالب بتغيير الشكل وتعديله، وسط رفض تركي صارم. فحاول عندها ضابط البروتوكول الكازاخستاني تغيير وضعية علما البلدين، فتدخل نظيره التركي لمنعه، مما أدى الى اندلاع شجار حاد بين الفريقين، وصل الى حد التشابك بالأيدي. هذا الشجار بلغ أسماع الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف، ودفعه إلى اتخاذ قرار حاسم بإلغاء الاجتماع، حفاظاً على احترام بلده وسيادته، وصوناً لاستقلاليته.
الأتراك يهزأون من رموز السيادة الكازاخية
تبين المصادر القيرغيزية بأنَّ الوفد التركي أعلم بالحادثة غداة وصوله الى مطار ماناس في بشكيك، فما كان منه إلا أن قام عمداً بأعمال يسخر فيها من رموز السيادة الكازاخستانية، حيث أسقط الوفد التركي علم دولة كازاخستان الذي كان موضوعاً على طاولة البوفيه، على الأرض. علاوة على تناولهم الأطعمة والمشروبات التي كانت معدة للطرف الكازاخستاني بشكل فوضوي، الأمر الذي أثار سخطاً هائلاً في أستانا، التي كانت تصلها أنباء ما يحصل أولاً بأول.
تظهر هذه الحادثة، والتي تعد واحدة من ضمن حوادث مماثلة تكررت غير مرة مع كازاخستان وغيرها، أنَّ تركيا تنظر إلى منظمة الدول التركية على أنها ليست أكثر من مجرد أداة لتعزيز نفوذ أنقرة الاستراتيجي والجيوسياسي في آسيا الوسطى. كما أنَّ هذه الحادثة تدحض شعارات "الأخوة التركية" التي ترفعها أنقرة وتروج لها في المحافل الإقليمية والدولية.
وإذا كانت كازاخستان، وسائر جيرانها في منظمة الدول التركية، لا تزال تحرص على عدم إظهار وفضح سلوكيات تركيا الفوقية والمتعجرفة، والذي يندرج ضمن الاحترام للشقيقة الكبرى، إلا أنَّ ذلك لا يعني أبداً السماح لتركيا بالتقليل من احترام الدول التي تتشارك معها في اللغة والعرق والكثير من الخصائص، أو تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية على حسابهم.
وهذا ما أوضحه الرئيس الكازاخستاني توكاييف لنظيره التركي إردوغان خلال اجتماعهما الثنائي الذي عاد وحصل في 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، على هامش الدورة الـ29 لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في العاصمة الآذرية باكو.
المشروع التوسعي والشراكة
كازاخستان ليست ساذجة، وهي تدرك تماماً المشروع التركي التوسعي في آسيا الوسطى، وأن الشعارات التي ترفعها أنقرة لا تعدو كونها ستاراً لخداع شعوب هذه الدول بمعسول الكلام الذي يبعث شجناً تاريخياً يغزو عقول الشعوب الناطقة بالتركية، وهي لا تقف ضد هذه المشروع، إنما ترفض أن يكون على حساب مصالحها الوطنية وسيادتها.
والحال نفسه ينسحب على باقي دول آسيا الوسطى، التي تنظر الى المشروع التركي من باب الشراكة وليس من باب الخضوع لأي شكل أو نوع من الوصاية التركية، ولا سيما في ظل ما تختزنه من ثروات ومقدرات طبيعية وأهمية جغرافية.
بيد أن أنقرة لديها حسابات مختلفة، حيث بنت سياستها الخارجية في آسيا الوسطى بالذات على الاستقطاب وفق خطاب يستند الى أفكار قومية استعلائية، تعلي من شأن العرق التركي، من أجل تحقيق مصالحها التجارية والمالية. لكنها في نهاية المطاف تاجر شرقي لا يتورع عن خداع صديقه وإغراقه في الديون حتى أذنيه، ثم بيعه بـ"ثلاثة قروش"، وفق التعبير المستخدم بكثرة في الأوساط الشعبية التركية خصوصاً في ألعاب الورق والحظ.
لذلك، تحرص كازاخستان على انتهاج سياسة خارجية متسقلة، تقوم على التوازن الدقيق بين تركيا وروسيا، الذين تشترك معهما في الكثير من الروابط التاريخية والجغرافية، وكذلك مع أميركا وأوروبا، اللتين تنظران الى الفرص الاستراتيجية في كازاخستان وجيرانها بشهية مفتوحة.