الإسم الوارد في عنوان المقالة ليس لسياسي معروف شغل مناصب مهمة، فخدم من خلالها قضية السلام، ولذا وجب الربط بينه وبينها.
كلا، إنما العمل الهادف إلى تعزيز مسار السلام بين الشعوب كافة، ومنها شعوب منطقة الشرق الأوسط، ليس حكراً على السياسيين وحدهم. بل على النقيض من حصر كهذا، لعل من الجائز القول إن الحرص على تمتين روابط التفاهم والتوفيق بين أطراف أي صراع مشتعل بأي من قارات الأرض الخمس، هو واجب مناط بكل شخص يستطيع، من منطلق الاقتناع، أولاً، ثم بما يمتلك من إمكانات على صعيد مِهني، إضافة إلى أدوات التواصل، ثانياً.
المحامي ناظم محمد عويضة، أحد قامات قطاع غزة في حقول القانون المتعددة، كان واحداً من هؤلاء الحريصين على تحقيق سلام عادل حقاً، فقد اقتنع بضرورته، وعمل لأجله قدر استطاعته، طوال سنوات عطاء الشباب، وحتى توقف الأنفاس، وعودة النفس إلى بارئها يوم السبت الماضي.
لم يرتبط ناظم بأي تنظيم، أو فصيل فلسطيني، تحديداً، بل كان حريصاً على أن ينطلق إسهامه في مجالات العمل الاجتماعي عموماً، والنشاط النقابي خصوصاً، من موقع المستقل. بدأ حياته المهنية في قطاع غزة عام 1976 بعد تخرجه من كلية الحقوق- جامعة القاهرة. خلال بضع سنوات لمع إسم ناظم عويضة كمحام مدافع عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. بين أشهر الذين تولى مهمة الدفاع عنهم أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية، كان أحمد ياسين، مؤسس حركة "حماس"، إذ كان ناظم أحد أعضاء فريق محامي الشيخ ياسين.
إنطلق ناظم في الحقل النقابي إلى جانب رجل القانون الكبير الأستاذ فايز أبو رحمة، أحد أعلام القضاء والمحاماة في فلسطين، وكان ناظم نائبه عندما شغل أبو رحمة موقع نقيب المحامين. ثم حصل نوع من الانسجام في التوجه السياسي بين النقيب (أبورحمة)، ونائبه (ناظم)، على صعيد دعم وتأييد توجه منظمة التحرير الفلسطينية بشأن التوصل إلى حل سلمي عادل للقضية الفلسطينية.
ولذا، بدا من الطبيعي أن يؤازر فايز أبو رحمة،عندما تعرض إلى حملة انتقاد وتحريض ضده، هو والناشر الصحافي المعروف حنا سنيورة، ناشر صحيفة الفجر المقدسية، لموافقتهما على اختيار منظمة التحرير الفلسطينية لهما للمشاركة في وفد أردني- فلسطيني مشترك للتفاوض مع واشنطن عام 1985.
إقتناع ناظم عويضه بإمكانية تحقيق سلام عادل بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل، قام دائماً على أساس مستند للقانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، التي توثق كل حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حق عودة لاجئي النكبة الأولى عام 1948.
ضمن هذا السياق، كان ناظم متفقاً مع التيار السلمي العريض (MAINSTREAM) الذي يرى أن أي اتفاق مرحلي، غير مخل بالحقوق المشروعة والثابتة، يجب أن يحظى بالتفاف فلسطيني حوله، حتى يتحقق الغرض منه، لأن الانقسام والخلافات بين الفصائل والحركات الفلسطينية، سوف تضر دائماً بالمصالح الفلسطينية، وتصب في صالح الطرف الإسرائيلي. ولذا كان طبيعياً أن يكرر، كما معظم الناس، وصف "الإنقسام البغيض"، كلما جرى حديث بيننا عما كان يحدث في قطاع غزة طوال الستة عشر عاماً السابقة لنكبة سابع أكتوبر 2023.
حرص ناظم أيضاً على الإسهام أكاديمياً في المجال القانوني، فوضع أكثر من مؤلف في مجالات قانونية وقضائية عدة، بينها كتابٌ متخصص في شرح قانون التحكيم، وآخر في شرح قانون البينات في المواد المدنية والتجارية رقم 4 لسنة 2001، وثالث تضمن مجموعة مختارة من أحكام محكمة العدل العليا في غزة، فكان بذلك يضع علم الشخص وتجربته في خدمة المجتمع ككل، وخصوصاً الأجيال الشابة.
يبقى أن أختم بكلمات سمعتها منه، وراح يكررها عبر الهاتف: "كلا، لن نذهب أبعد من رفح، إنها نكبة ثانية، ولن نقع في فخها".
من جهتي كنتُ على يقين تام أن شقيقي ناظم كان يصدقني القول المتدفق مع نبض قلب يسكن ضلوع الصدر منه، كلما تحدثت معه منذ نزح من بيته في قلب مدينة غزة إلى منفاه داخل وطنه.
لكن مشيئة الأقدار كان لها خيار مختلف. أُصيب ناظم بجلطة خلال معاناة الأسابيع الأولى في منفى رفح، تبعتها نوبة مفاجئة هجمت على القلب المُلتاع، فاضطر للرحيل إلى مصر طلباً للتشافي، وهناك تكاثرت الأوجاع عليه كما لو أنها تتناسل في جسده الضعيف. ولأن ابنتيه إيمان وداليا تقيمان مع زوجيهما وتعملان في سلطنة عُمان، تجاوبت السلطات هناك معهما وتكرمت عليهما بالموافقة على استضافة أسرتهما مؤقتاً، حتى يلوح حل يسمح للأسرة بالعودة إلى غزة.
شكراً سلطنة عُمان، الدولة الكريمة، والشعب المضياف. فتحت مسقط الباب لك ناظم ولأسرتك، ولم يدر بخلد أيٍ منا، نحن أفراد أسرتك الأكبر، أن ثراها الطيب سيحتضن جثمانك الطاهر، وأنت الذي أعددت لحدك إلى جانب مرقد والدك في غزة، مسقط رأسك قبل أربعة وسبعين عاماً.
نَم بسلام... يا ناظم الحب والخير والوفاء والسلام. أليسَ "سلام" هو إسم أول أحفادك؟ بلى. في رحمة الله ومغفرته، أبا فادي.