المحبة... لعلّها الكلمة الأسمى التي اكتنفت كلمة الوجود الأول، والتي تماهت وإياها. تاه عنها الكثيرون، وأدركها الكثيرون، ومصائب آدم في هذا الكم الذي لم يُدْركها...
الزمان في الثمانينات، المكان قريتي الشوفية وقد بلغت من العمر بضع سنوات... كان القصف حينها والقصف المضاد في الحرب الأهلية. وكنا يومها نتلقّى القذائف المدفعية التي يعود المدفع المتمركز في أعلى الجبل ليرد عليها بقذائف أخرى تصل الجانب الآخر كما وصلتنا قذائفه...
يومها خفت خوفًا شديدًا لا أعلم سببه، مع أنني كنت قد تعوّدت النوم على أصوات القذائف التي تهبط علينا، وتلك التي تُرسل من عندنا، وذلك بغض النظر عن نشاط هذه الجبهة مقارنة بثغورها في مناطق المتن والشحّار الغربي وبيروت...
يومها خفت، وصرت أبكي وقد وضعت كلْتَي يدييّ على أذنيي علّهما يمنعان الصوت من أن يفجّر سمعي وأماني... وصرت أصرخ بأعلى صوتي: أنا أكره المسيحيين! أنا أكره المسيحيين!
ووسط بكائي المتهدّج وصراخي، أحسست بذراعَي أمي يغمرانني، وببشرتها الناعمة تلامس وجنتي وهي تقبلني، ويدها تمسّد رأسي وتقول:
«هذه هي الحرب يا ليلى! الحرب بيننا وبين فئة معينة من المسيحيين، لا كل المسيحيين. ألا تحبين طانت [صديقتها وقد غفلت ذاكرتي عن اسمها، لعلّه جورجيت]؟»
أجبت من بين الدموع التي حاولت أن أمسحها بدفء أمان أمي: «بلى! أحبها كثيرًا!»
- جيد، ألا تحبين العم بشارة؟ ألا تطلبين أن تذهبي أنت لكي تشتري من عنده الحليب لجدتك لأنه وزوجه وابنتيه يستقبلونك بترحاب كأنك واحدة من العائلة؟»
- بلى، أحب العم بشارة وقصصه التي يخبرني إياها، وكعك مرت عمو بشارة!»
- «العم بشارة وعائلته مسيحيون، وطانت [صديقتها] مسيحية... ليست المشكلة مع المسيحيين، بل مع الفئة التي تُحاربنا... أتعرفين يا ليلى، أنت هنا تبكين خائفة وتصرخين، وهناك على الجهة الأخرى بنت في مثل عمرك، تصرخ كذلك وتبكي خائفة... هذه الحرب يا ليلى... اِدعي حتى تنتهي الحرب، ونعود جميعًا لننعم بالأمان، ولا تكرهي كل الناس إذا كان بعضهم في صراع معنا!... إنها الحرب، وعندما تنتهي الحرب، سترين كيف سنعود لصداقاتنا كما كنا قبل الحرب! لأن ما يجمعنا أهم بكثير»
- «شو اللي بيجمعنا؟»
- «لبنان...كلنا منحب لبنان... »
لم يتوقف بكائي لسماع كلماتها، لكنَّ هطول الدمع تباطأ، والخوف النابض خارج الصدر اِستهدأ، واليدين أُسبلتا، والروح خشعت ودَعَت، والبصر إلى السماء رنا وتَرَانَا... وترسّخ في عقلي وقلبي ما فهمته من كلمات أمي: لا تكرهي أحدًا... الصراع يكون مع البعض لا مع الكل، وبالتالي يكون التعميم خطأ جللاً، وكره الجماعة بسبب أفعال الأفراد غير صحيح... لبنان ومحبته تجمعنا... غلّبي المحبة دائمًا، وفكري أنَّ معاناتك هي معاناة لبنانيّ آخر في مثل سنّك يشاركك الزمان وإن لم يشاركك المكان...»
منذ تلك اللحظة، ومن دون أن أدري لصغر سنّي يومها، ومحدودية تحليلي بحدود سنّي الصغيرة، لكنَّ تعاملي مع الأفراد ابتداءً بأبناء جماعتي وملّتي وصولاً إلى كلّ لبنانيّ أقابله، اقتصر على الإنسان الموجود في كلّ منّا... الإنسان فقط لا غير...
ومنذ تلك اللحظة، بدأت بوادر الموضوعية التي عوّدتني النظر إلى أي أمر من زواياه كافة، من وجهة نظري ونظر الخصم، ونظر الصديق، والغريم، والمنافس، والمساند... الموضوعية التي جعلتني مع تقدّمي في السنّ أغلّب العلم والمنطق على أي تحليل آخر، وأي قياس آخر، فأبتعد عن الخرافات، والغيبيات التي تعارض المنطق والعقل الذي أودعني إياه الله أمانة أحسن الحفاظ عليه واستخدامه وتوسّله من أجل التقدّم في هذه الحياة الدنيا، والارتقاء في معارج الحياة الحقّة...
هذه الذكرى التي لا تزال ماثلة في ذاكرتي ووعيي قبل ذاكرتي مكّنت في قلبي المحبة... المحبة التي أصبحت أساس كلّ ما أقوم به... من أبسط الأمور إلى أهمها... فالمحبة هذه ارتسمت فيَّ أفقًا وحيدًا لا فضاء فيه للكره أو البُغض أو لأي مشاعر سلبية من أي نوع كانت، خاصة لأبناء وطني، مهما بلغ حجم الخلاف معهم أو الاختلاف، ومهما كان ماضي العلاقات في ما بيننا أليمًا ومؤلمًا... والمعادلة أصبحت: أحبك أو لا أحبك، ولكني لن أستنزف ذاتي بكرهك، سأحبك لأنني أريد أن أبني لبنان وطننا معًا، معك.
بهذه المحبة رُسمت علاقتي بالله، وبالكتب المقدسة، وبالأديان، وبالحجر والبشر والطبيعة التي رأيت فيها المعلّم الأول والمعلّم الأكبر ومصادر العبر والنصائح والمحاذير...
المهم أنَّ المحبة هي التي لها دومًا المقام الأول... وهي التي أوصى بها السيد المسيح عليه السلام صراحة إذ قال «أحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم».
ونحن البشر، لو طبّقنا -على اختلاف أهوائنا- ما أمر به السيد المسيح عليه السلام، لما صُنعت في الكون رصاصة، وما أزهقت أرواح، وما أبيحت أعراض، وما سُلبت حقوق ولا أوطان!
لكنَّ الإنسان بطبيعته شيطان طمّاع، يقوده طمعه ورغبته بمشاركة الإله قدسيته وألوهيته، متناسيًا ما فيه من روح الإله النورانية، من هذا الخير المطلق، والارتقاء الأعلى...
والمحبة اليوم أهم من القوت للبنانيين خاصة في ظل هذه الحرب الأخيرة التي لا تزال نيرانها مستعرة في جسدنا لا أرضنا فحسب... فلبنان هو لنا الجسد والروح والماضي والحاضر والمستقبل... فإن كان كنا، وإن لم يكن لن نكون... وكلّ نار تصلى علينا من العدو الصهيوني إنّما تأكل من لحمنا لا من تراب ندوس عليه، لأنَّ هذا التراب قد شرب من دمنا مدّة قرون، وشربنا من مياهه مدة قرون حتى صار نحن وصرنا هو، كيانان سكنتهما روح واحدة...
والحرب اليوم علينا لا يمكن الانتصار عليها الاّ بالمحبة. لا محبة العدو، بل محبة بعضنا بعضا...
بيننا خلافات كثيرة، ومحطات تمَّ فيه إيلام بعضنا من قبل البعض الآخر؛ وكثيرون منّا يتداولون في ما يحمّلونه على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات تصريحات وآراء مستفزة، ومتعالية - أحادية الاتجاه أو متبادلة؛ وأحيانًا كثيرة خالية من أدب الكلام والتواصل، فيها تخوين، واستقواء، وتهديد باستباحة الأملاك الخاصة، وأمن بعض المناطق، وبعض الفئات، وحتى بالقتل... تنمّر وتنمّر مُضاد...
كلّ هذا صحيح... وصحيح أنَّ وجهات النظر بيننا كلبنانيين متناقضة ومتعارضة حول مسائل مفصلية وشخصيات لعبت دورًا في تاريخنا الحديث. إذ هذا يرى في هذه الشخصية مثلاً نموذجًا للوطنية والتضحية والبطولة، وذاك يخوّنها ويتهمها بالعمالة، وذاك يعلي من شأن قادته ويراها النموذج الأفضل في الوطنية وهذا يخوّنها ويسمها بالعمالة على القاعدة التي قد ينادي بها الفريقان، أو يتناديا بها بتصرّف.
صحيح أنَّ لغة التخوين والاتهام بالعمالة وعدم مراعاة اختلاف المواقف وعدم التماهي بالاصطفافات كان هو عنوان السنوات التي سبقت، ولا يزال عند الكثيرين، ولكن السؤال المطروح: إذا كان الله جل جلاله قد قال إنَّا خلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا (صدق الله العظيم) فهل ُيجرّم الاختلاف، ويُخوّن عدم التماهي؟؟؟
الله لو أراد لجعلنا – بني آدم كلنا- على تفكير واحد، واصطفاف واحد، لكنه جعل بيننا الاختلاف كما جعله في الكائنات الحيّة كلّها، وفي الطبيعة، التي لم تكن لتبلغ جمالها وكمالها بغير هذا التنوّع والاختلاف...
صحيح ما يشكو منه كل لبنانيّ من اللبنانيّ الآخر، لكنَّ اليوم ليس يوم عتاب وانتقام، إنَّه يوم تكاتف من أجل البقاء... لأنَّ التضحية بالجزء هي تضحية بالكل... وسنؤكل إذ يؤكل الثور الأبيض...
صحيح ما يشكو منه كلّ لبنانيّ من الآخر، لذا اليوم ليس يوم الاستقواء والخطاب المتعالي، بل هو يوم تواضع، واعتراف بالخطأ، ومسامحة، وتعاون، وتماهٍ في المواطنة والإنسانية.
صحيح ما يشكو منه كلّ لبنانيّ من الآخر، إنّما اليوم ليس يوم تعادٍ وتراشقٍ بالسباب واستباحة للأملاك الخاصة وإثارة للنعرات، بل هو يوم الوحدة الوطنية، ووقفة العصيّ المختلفة وقفة الرزمة الواحدة حتى لا تُكسر...
صحيح ما يشكو منه كلّ لبنانيّ من الآخر، وإن تفاوتت النسب، لكنَّ اليوم، كما في مصالحة الجبل، يوم تغليب للمحبة، للوطن، للسيادة، للاستقلال، للوحدة، على أي مراد آخر، لأنَّ محبتنا لأنفسنا ولكرامتنا ولسيادتنا ولعزّتنا ولمنعتنا ولحريتنا لا تتحقق، ولن تتحقق إلاَّ بمحبتنا لبعضنا، بمحبتنا لاختلافاتنا التي بها نغتني، بمحبتنا لتمايزنا الذي لا يفسد في الود قضية، بمحبتنا لعيش واحد لا مُشترك نُجبر النفس عليه بانتظار الفرصة المناسبة لإشعال حرب أهلية جديدة، وتقزيم الوطن على قياس هذه الفئة أو تلك...
لبنان إن لم يكن هو المحبة التي لا نلهج إلاَّ باسمه في فيئها، لبنان لن يكون، ونحن لن نكون، لأنَّ لبنان الذي صدحت به الحناجر، وأغنى العالم تاريخًا وعلمًا وحضارة، لم يُخلق ليكون مُلكَ جماعة من دون الأخرى. فلبنان هو الإنسان الذي ينتمي إليه وقد نزع عنه أي انتماء آخر، لأن الانتماء إلى لبنان هو الدرع الحامي في وجه كل الأعاصير، والتسونامي، وزلازل الشرق وبراكين الغرب...
أحبوا لبنان من قبل الولادة حتى، أحبوا لبنان أولاً وأخيرًا، واعلموا أنَّ الحرب التي تقع، لا تستهدف – وإن أعلنت ذلك- فئة من دون أخرى، بل تستهدف لبنان بشخص كل واحد منكم، لذا أحبوا بعضكم بعضًا كما أحبكم السيد المسيح عليه السلام، وكما كرّمكم الله جل جلاله؛ أحبوا بعضكم بعضًا لتتواضعوا، ولتروا أنَّ العبرة بالتاريخ الذي أثبت أنْ لا سيادة على لبنان إلاَّ من كل بنيه، فلا إلغاء للآخر وإنْ كنت وإياه على طرفي نقيض...
حرب اليوم علينا جميعًا! كل قطرة دم تسيل هي من شرايينا كلنا، كل روح تزهق غدرًا هي بعض روح من أرواحنا كلنا؛ كل نزوح لبيت هو نزوح لكل أمان فينا؛ كل جوع أو عطش أو مخاض أو جرح أو... هو نزف من وريدنا كلنا... فالمسار الذي يسير إليه مصير لبنان إنّما هو مصيرنا كلنا... معًا تكتب لنا النجاة، أو معًا يكتب علينا الحداد...
لبنان إن لم يكن لا نكون، ولبنان لا يكون إلاَّ بالمحبة... أحبوا بعضكم بعضًا ليحبكم الحق، وتحبكم إشراقة الغد الآتي! أحبوا بعضكم بعضًا ليكون لبنان بكم وتكونون.