نَعَت السينما العالمية قبل أيام أسطورتها روبرت ريدفورد، بوَصفِهِ مُمَثلاً ومُخرجاً وصانعاً لها، فقد ساهَم برَسم مَلامِحَها لعُقود. خلال مَسيرته الطويلة فاز بالأوسكار كمُخرج، وعام 2002 كرّمَته أكاديمية السينما بجائزة الإنجاز مَدى الحياة. بَرَع في أداء جَميع الأدوار، الخفيفة أو المُرّكّبة، لعب دَور الشِرّير والمُجرم والطيب والعاشِق وهامِس الخيول والصَحَفي، وهذا ما جَعَله نَجماً مَحبوباً، ليسَ لجيل فقط بل لأجيال، وليسَ لوَسامته فقط بل ولجاذبيته وتواضُعِه وذكاءِه وغُموضِه في آن. كان ريدفورد، المَولود في سانتا مونيكا عام 1936، أحَد أبرز نجوم هوليوود وخير نموذَج لها على مَر العُصور.
روحه الشَغوفة بالفن مُنذ الصِغر، دفَعه للسَفر الى أوروبا مُبَكراً لدراسة الفن، حيث قَضى أوائل العشرينيات مِن عُمره في باريس، مُبدعاً أولى لوحاته، التي لم تظهر للعَلَن حَتى عام2011 ضِمن مَعرض في موناكو، بتَشجيع مِن زوجته الثانية، الفنانة سيبيل زاغارز، التي أقنَعَته بعَرضها للجَمهور. بَعد عَودته الى الولايات المتحدة عَمل في مَسارح برودواي، وبَعد نَجاحه فيها بَدَأ مَسيرته السينمائية، فكان أول ظهور له عام 1967 في فيلم "حافي القَدَمين في الحديقة" مَع جين فوندا. أما إنطِلاقته الحَقيقية فكانت في فيلم "بوتش كاسيدي وطفل ساندانس"، جَسّد فيه مع بول نيومان دَور سارق قطارات وبنوك مُحتال ساحِر أسَر قلوب المَلايين، ليُصبح بَعده نَجماً سينمائياً عالمياً. بَعدَها حَصَل على أول تَرشيح أوسكار عَن فيلمه الكوميدي "المارق" عام 1973، أيضاً إلى جانب نيومان، جَسّد قِصّة مُحتالين يَنتقِمان مِن زَعيم مافيا قام بقتل صَديقهم. بَعدها إتّجَه الى الأعمال الكلاسيكية كرواية "جاتسبي العظيم" لسكوت فتزجيرالد عام 1974، الذي رسّخ مَكانته كأحَد عُظماء هوليوود. تلاه فيلم الإثارة "كل رجال الرئيس" عام 1976، عَن فَضيحة ووترغيت، بمُشاركه داستن هوفمان، جَسّد فيه دَور الصَحفي بوب ودوارد الذي قام بِكَشفِها، ما أدّى في النهاية الى إستِقالة الرئيس الأمريكي نيكسون.
لم يَحصُل ريدفورد على جائزة الأوسكار حَتى عام1981، ليس كمُمَثل، بل كمُخرج لفيلم "أناس عاديون"، الذي حاز على أربع جوائز أوسكار رَغم كونه أول تجربة إخراجية له، والمُقتبس عَن رواية بنَفس الاسم للكاتبة يوديث جيست عَن عائلة ثرية بإحدى ضَواحي شيكاغو تعيش فاجعة. بمُشاركة ميريل ستريب وأخراج سيدني بولاك، غزا ريدفورد قلوب الملايين في فيلم "خارج أفريقيا" عام1985، أدّت فيه ستريب دور الكاتبة الدنماركية كارين بليكسن التي تهاجر الى كينيا لبدء حياة جديدة، وأدّى هو دور دينس هاتون صَياد وطَيار بريطاني يَصعُب ترويضه كالأسود، إلا أنه يُسَلِّم لها في النهاية، فلا يزال مَشهد قِيامه بغَسل شَعر ستريب حاضِراً في ذاكرة الملايين. تعاوَن مراراً مع سيدني بولاك، الذي مَنَحَه بَعضاً مِن أشهر أدواره، مِثل "كما كنا" عام1973، و"ثلاثة أيام من الكوندور" عام1975. كان الوَضع مُختلفاً عام 1998 مع فيلم"هامس الخيول"، الذي لم يكتفِ فيه بدور البطولة، بل وأخرَجَه وكان من أجمل أعماله تمثيلاً وإخراجاً. في نهايات مَسيرته الفنية قدّم ريدفورد ما يُمكن إعتباره أكثر أدواره إثارة وأفضلها أداءً، في فيلم "كل شَيء ضائع" عام 2013 عَن عُمر ناهَزَ 77 عاماً، جسّد فيه دَور بَحّار تائه في المُحيط مَع قاربه المَثقوب، وكانت المفاجأة أن ترشيحَه الذي كان مُتوقعاً للأوسكار لم يَتَحَقّق! عام 2014، ظَهَر في عالم مارفل بدَور عَدو كابتن أمريكا في فيلم "كابتن أمريكا:عَودة المُنتقم الأول". وعام 2018 أعلن إعتِزال التمثيل بفيلم "رَجُل نبيل ومُحتال"، الذي ظَهَر فيه مُجَدداً بدَور لص بنوك عَجوز، ولم تَغِب إبتسامته الساحِرة رَغم تقدّمِه في العُمر. أما آخر ظهور له، فكان قصيراً في فيلم "المُنتقمون:نهاية اللعبة" عام 2019.
كان مُلتزِماً في الواقع، كما كان في السينما، فقد حافَظَ على خُصوصية حَياته الشَخصيّة. تزَوّج في الثانية والعشرين مِن عُمره مِن لولا فان واجنين وهي مؤرخة وناشِطة، وأنجَبا أربعة أطفال، إنتهى الزواج بالطلاق ليَتَزوج بَعدها مِن الرَسّامة الألمانية سيبيل زاغارز في هامبورغ عام 2009. عاش ريدفورد، الذي كان شَغوفاً بالتزَلج وركوب الخيل والمَشي، بَعيداً عَن صَخَب الحياة في منزل ريفي بولاية يوتا الأمريكية، وأسّس فيها مَعهد ساندانس، وهو في الثالثة والثلاثين مِن عُمره، الذي يَستضيف سَنوياً أهَم وأنجَح مهرجان سينما مُستقل في أمريكا، قدم العَديد مِن النِتاجات المُستقلة للجمهور، آخرها فيلم وثائقي عام 2022 عن زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني، وفيلم "20 يوماً في ماريوبول" لعام 2023، الذي وثّق وَحشية الغزو الروسي لأوكرانيا. كان مِن حُماة البيئة لا سيّما في مَوطنه يوتا، ودَعى للحِفاظ على الحياة البرية. كما كان يُعَبِّر عَن مَواقفه السياسية بقوة، كإعلان مُعارضَتِه للرئيس الأمريكي ترامب خِلال ولايته الأولى.
هو ورفاقه الذين رَحَل أغلبهم قبله، جَعلوا السينما الأمريكية عالماً مُثيراً مَليئاً بالإبداع والإبتِكار والنَقد مِن الستينيات حَتى الثمانينيات، فهوليوود تعرف ما تدين به لريدفورد، لذا رثاه مَن بقي مِن عَمالقتها بما يَستحِق. بَدئاً بميريل ستريب، التي وَدّعَته بالقول: "لقد رَحَل أحَد الأسود. أرقد بسَلام يا صَديقي العزيز". أما جين فوندا، التي شَكّلت مَعَه ثنائياً إستِثنائياً في خَمسة أفلام هي "قصة طويلة" 1960، "المُطاردة" 1966، "حافي القدَمين في الحَديقة" 1967،"الفارس الكهربائي" 1979 وأخيراً "أرواحُنا في الليل" 2017، فكتبَت على إنستغرام: "أحدَث بوب فرقاً هائلاً بكل شَيء. جَسّد أمريكا التي يَجب أن نناضِل لحِمايَتها. أحدَث ثورة في صِناعة الأفلام المُستقلة. أنا حَزينة جداً اليوم. بَكيت طوال الصَباح، لكن لحُسن الحَظ أتذَكّر اللحظات السَعيدة عِندما كانت مَقالِبه تُضحِكني". أما باربارا سترايسند التي شارَكته فيلم "كما كنّا" عَن قِصة نادِلة ماركسية تقع في حُب إبن ثَري، فرَثَته بالقول:"كان كل يوم في مَوقع التصوير مُثيراً مُفعَماً بالحَيوية. كنا مُتناقضَين، هو مِن عالم الخيول، وأنا لدي حَسّاسية منها! مَع ذلك بقينا نُحاول مَعرفة بَعضنا، تماماً كشَخصِيّات الفيلم. كان بوب يتمَتّع بكارزما وذكاء وعاطِفة، ومن أفضَل المُمَثلين على مَر العُصور. آخر مَرّة رَأيته فيها جاء لتناول الغَداء، تحدثنا عَن الفن وقرّرنا أن نَبعَث رسومَنا لبَعضِنا. كان فريداً وأنا مُمتنّة للعَمل مَعه". قال عَنه مورغن فريمان:"هناك أشخاص تعرف أنك سَتنسَجِم مَعهم. بعد العَمل مَعه في فيلم "بروباكر" أصبَحنا أصدِقاء. وتكرار العَمَل مَعَه في "حَياة غَير مُكتمِلة" كان بمَثابة حُلم تَحَقّق. أرقُد بسَلام يا صَديقي". أخيراً قال بنديراس:"رَحَل روبرت ريدفورد الرَمز السينمائي بكل مَعنى الكلمة. مُمَثلاً ومُخرِجاً ومُنتِجاً ومُؤسِّس مهرجان ساندانس. سَتظل مَوهبته خالِدة بَينَنا للأبَد، مُشرِقة في صُوَر أفلامه وفي ذاكرتنا".
لعُقود، كان الأبرَز والأكثر وَسامة، حَتى بَعد إعتزاله التمثيل تَدريجياً، ظَلّ الأكثر شَعبية، ومَثلاً أعلى لكُل مَن يَعتبر نفسَهُ مُستقل ومُلتزم وصاحب ضَمير في صِناعة السينما الأمريكية. كان ريدفورد مثالاً للرَجُل الأمريكي الصالح والمَسؤول، فقد وَظّفَ شُهرَته وإمكانياته لخِدمة القضايا التي يؤمن بها. لم تَشهَد حَياته فَضائح وَلم يُغضِب أحَداً قَط. يُقال بأنه لم يُصَب إلا بنوبة غَضَب واحِدة عام2013 أثناء عَمله كمُدير لمَهرجان ساندانس، حين حَضَرت باريس هيلتون برفقة حَشد كَبير مِن الحُضور، إذ قال:"لا عِلاقة لها بالأفلام. بماذا تُشارك؟ هي ورفاقها الصاخبون جَعَلوا المهرجان أقل مُتعة. هنالك الكثير من الناس الذين يأتون إلى المهرجان لمَصالحهم الشَخصية."
مصطفى القرة داغي
[email protected]