: آخر تحديث

تركيا وإيران: ماذا بعد؟

94
88
100

ستطال عقوبات أميركية قريباً كل من تركيا وإيران، وقد تتوسَّع حلقة العقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتشمل إعادة فرض العقوبات الدولية عبر آلية "سناب باك" Snap back بعدما اتهمت الدول الأوروبية الثلاث الموقّعة على الاتفاقية النووية طهران بأنها طوّرت صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، بانتهاكٍ لقرار مجلس الأمن 2231. مواقف الدول الأوروبية الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، نحو إيران تميّزت في الآونة الأخيرة بطفح الكيل معها ليس فقط بسبب التجاوزات في الملفات النووية والباليستية وإنما أيضاً نتيجة الممارسات الإقليمية العدائية ضد ناقلات النفط ومصفاة النفط "أرامكو" السعودية وإجراءات قمع المظاهرات داخل إيران وفي العراق والتلويح بها في لبنان. روسيا بدورها بدأت تعود عن اعتبارها إيران مفتاح عدم الانزلاق الى اللااستقرار في لبنان،وذلك بعدما اتخذ التدخل الإيراني في العراق طابع الاستهانة بالسيادة والتحقير بالدولة والقمع للمظاهرات، وبعدما تبيّن لها ان دور إيران في لبنان سيؤجّج النزاع لبنانياً ويؤثر على المشاريع الروسية لسوريا. هذا ليس انقلاباً كليّاً في المواقف الروسية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنه تعديل له وقعه يتزامن مع التغيير المهم في ردود الفعل الأوروبية نحو السياسات الإيرانية، وبالذات الألمانية. الأوروبيون، شأنهم شأن الأميركيين، قلقون من الطموحات التركية بقدر قلقهم من المشاريع الإيرانية. العنوان الأساسي للاستياء من الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان هو منظومة S-400 الروسية المضادة للصواريخ التي يصرّ على شرائِها بالرغم من احتجاج كامل حلفائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو). إنما العناوين الأخرى ذات الأهمية تشمل تمدّد تركيا في سوريا ضد الأكراد، ومذكرتيّ التفاهم مع فايز السرّاج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية حول التعاون الأمني والعسكري وتحديد مناطق السيادة البحرية واللتين أثارتا الاستنكار الغربي والعربي وخلافات مع دول البحر المتوسط حول استثمارات قطاع الغاز. علاقة رجب طيب أردوغان الودّية مع نظيره الأميركي دونالد ترامب هي التي أنقذت الرئيس التركي حيناً وضلّلته حيناً آخر. وقريباً سيستاء أردوغان من ترامب عندما يغض الرئيس الأميركي النظر عمداً عن عقوبات قاسية ينوي الكونغرس فرضها على تركيا بسبب سياسات أردوغان الاستفزازية والابتزازية. سيستاء لأن صديقه ترامب لن يقف في وجه فرض العقوبات ليعرقلها أو يخففها بل ان فحوى عدم احتجاجه عليها هو الموافقة. فدونالد ترامب ليس في مزاج خوض معركة مع الكونغرس بسبب رجب طيب أردوغان الذي اختال كالطاووس في لندن أثناء اجتماع حلف شمال الأطلسي. دونالد ترامب يريد تجنّب الانجرار الى المواجهة في الملفات الدولية، وما يخشاه اليوم هو أن تتهوّر القيادة الإيرانية وتستهدف مواقع وقواعد وقوات أميركية في العراق أو في سوريا لأنه قد لا يتمكّن عندئذ سوى من اتخاذ قرارات عسكرية، وليس فقط إجراءات عقابية.

أردوغان كان وجهة توتر في اجتماع لندن سيما وأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دشّن اللقاءات بتصريحات مثيرة اعتبر فيها حلف الناتو في حالة "موت دماغي" داعياً الى مراجعة الاستراتيجية وإعادة الحوار بين الحلف وروسيا، واستبعد التفاهم مع تركيا حول تصنيف الإرهاب مُتهِماً أنقرة بالعمل مع "مقاتلين مرتبطين" بتنظيم داعش الإرهابي. أردوغان احتج واستهزأ وهدّد ورفع عصا ابتزاز أوروبا عبر قناة تدفق اللاجئين اليها. وترامب استاء من ماكرون مُعتبِراً تصريحاته حول الناتو انها "مُهينة ومُسيئة جداً" و"مُزرية للغاية".

ترامب وأردوغان تقاربا كعادتهما كلما يلتقيان وكان لهذا التقارب وقعاً أكبر وسط تقوقع قادة فرنسا وبريطانيا وكندا والدنمارك للتهكم على الرئيس الأميركي. أدّى تسريب تلك الصورة والصوت الى وصف ترامب رئيس وزراء كندا جاستن ترودو أنه "بِوجهين" وأثار المزيد من غضب الرئيس الأميركي من حلفائه في الناتو. أما تقاربه وعلاقاته الشخصية مع أردوغان فإنها ساهمت في تراجع الرئيس التركي عن تهديده برفض خطط الدفاع عن شمال وشرق أوروبا ما لم يصنّف الشركاء الأوروبيون في حلف شمال الأطلسي المقاتلين الأكراد في سوريا "إرهابيين".

موقع الأكراد في سوريا في المعادلات الإقليمية بات مثيراً للانتباه من عدة نواحي بعدما بدا ظاهرياً أن أردوغان حصل علىمباركة ترامب لسحقه الأكراد في سوريا. فما يجري وراء الكواليس لا يؤكد وقوع انفصام أميركي – كردي كامل في العراق، بل هناك مؤشرات على تفاهمات ضمنية أميركية – كردية حول حيويّة الدور الكردي في منع مشاريع روسية لأنابيب الغاز عبر الأراضي السورية نحو تركيا. هناك حركة لافتة لعودةٍ إماراتية وربما سعودية الى سوريا،جزءٌ منها لدعم الأكراد ومنع تركيا من الاستفادة القاطعة لغزوها سوريا.

العقوبات الأميركية المتوقعة ضد تركيا بسبب صفقة S-400مع روسيا تتزامن مع التحوّلات في بعض المواقف الخليجيّة من سوريا ومن شقيّ تركيا وإيران في المشهد السوري. تتزامن أيضاً مع ازدياد التمدد التركي في ليبيا الذي باركه البرلمان التركي هذا الأسبوع عبر مصادقته على الاتفاقيتين بين أردوغان والسرّاج اللتين أثارتا احتجاج مصر واليونان وقبرص بالدرجة الأولى، اضافة الى استياء نصف الليبيين من صفقات العبث بثرواتهم ومستقبلهم ومن رعاية تركيّة للجماعات الإسلامية المتطرّفة داخل ليبيا.

تفاصيل الاتفاقيتين غير واضحة لكن العناوين الرئيسية تشمل احتمال إنشاء القواعد العسكرية التركية في ليبيا، حسب التقارير، وهناك مذكرة تفاهم على تعاون عسكري وأمني وبحري واتفاق على الغاز يقطع الطريق على مشاريع اليونان ومصر وقبرص. أهمية الاتفاقيتين السياسية والإيديولوجية هي أن السرّاج قدّم الى أردوغان أدوات إحياء مشروع "الإخوان المسلمين" في ليبيا وقدّم ليبيا اليه ساحةً لإنماء التنظيمات المتطرّفة التي تمارس الإرهاب. قدّم السرّاج الى أردوغان واجهةً بحرية مهمّة يستخدمها الرئيس التركي لابتزاز أوروبا بسلاح تهجير اللاجئين اليها. أدخل السرّاج تركيا طرفاً في حرب أهلية ليبية وأعطى أردوغان دفّة الإملاء على شركات النفط الأوروبية التي أبرمت العقود مع الدول الليبية. فتركيا تخوض معارك وحروب غاز، تعتبرها مصيرية. وليبيا هدية غالية قدّمها السرّاج الى أردوغان لتخدم مشاريعه الإقليمية والإيديولوجية.

الأوروبيون منزعجون من الصفقة بين أردوغان والسرّاج ومما فعل ضد الأكراد في سوريا، كما من غطرسة أردوغان ضمن حلف شمال الأطلسي ومن محاولة إقحامه السلاح الروسي على حلف الناتو عبر الباب الخلفي ومنظومة S-400. ومن أكثر ما يثير غضبهم هو ما يعتبرونه ابتزازاً سافراً لمسألة اللاجئين التي لا يخفي أردوغان اعتباره لها أداة حادة في يديه ضد أصدقائه اللدودين الأوروبيين وحلفائه في حلف شمال الأطلسي.

الأوروبيون مطوّقون بسياسات تركيا وإيران التي تحرجهم وتزجهم في الزاوية وهم الآن يرتدّون على التهديدات التركية والإيرانية لهم.

الشكوى التي تقدمت بها الدول الأوروبية الثلاث المدوّنة على الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA لدى الأمم المتحدة ليست بلا أهمية لأنها تمهّد لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران. هذا تطوّر مهم للغاية قد يؤدي بطهران اما الى إعادة النظر أو الى المزيد من التصعيد لاستدعاء المواجهة. الرئيس الأميركي حذّر طهران من رد قوي إذا ما عبرت الخطوط الحمر غير المعلنة بالذات تلك التي تتعلق بالقوات والقواعد الأميركية في المنطقة وبالأسلحة الباليستية وتمددها في العراق.

تطورات هذا الأسبوع ليست مطمئنة إذ كشف مسؤولون أميركيون ان إيران تسعى لبناء ترسانة من الصواريخ الباليستية في العراق كما نُشرت صُورٌ عن نقل إيران صواريخ منوّعة الى سوريا وسط حديث عن هجمات "انتقامية". وكيل وزارة الدفاع الأميركية، جون سي رود، عبّر عن قلق الولايات المتحدة من اعتداء إيراني قريب لم يكشف تفاصيله فيما حَذّر مسؤولون في الاستخبارات الأميركية من تهديدات إيرانية ضد القوات الأميركية في الشرق الأوسط. هناك أنباء عن توغلٍ إيراني قرب حلفاء الولايات المتحدة في ريف الحسكة وعن تجنيد إيران 7500 عنصر شمال شرقي سوريا وجنوبها. هذا في الوقت الذي زاد فيه "الحرس الثوري" الإيراني وقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني تدخّله العلني في العراق وضرب السيادة بعرض الحائط، وفي الوقت الذي بدأ يتسرب فيه مستوى القمع الإيراني للمظاهرات العراقية والإيرانية.

فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تُطوّق نفسها بقرارات منها وهي تَلهث وراء احتواء انتفاضات ضدها في الداخل الإيراني وفي العراق – وربما قريباً في لبنان إذا اضطرت. وبحسب المعلومات، هناك من يتربّص لها بالمرصاد – والكلام ليس فقط عن تحوّل في المواقف الأوروبية أو تراجع في المواقف الروسية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي