مبارك الهزاع
في قصتي مريم وزكريا عليهما السلام، نجد صياماً من نوع مختلف... ليس عن الطعام، بل عن الكلام. قال الله لزكريا -عليه السلام: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا»، وقالت مريم: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا».
لكن، لماذا هذا الصمت؟ وماذا يحدث في الجسد والعقل والروح عندما نصوم عن الكلام؟
العلم يجيب: Epigenetics والصمت الشافي علم الـ Epigenetics يخبرنا أن الجينات ليست مصيراً محتوماً، بل يمكن تفعيلها أو إيقافها بحسب ما نفعله ونشعر به. البيئة، الأفكار، السلوك، وحتى الصمت والتسبيح، كلّها ترسل إشارات تؤثر على الجينات.
دراسات من جامعة هارفارد وجامعات أخرى أثبتت أن التأمل، الذكر، والعزلة الهادئة تُخفض نشاط الجينات المرتبطة بالقلق والاكتئاب، وتُفعّل الجينات المرتبطة بالتعافي والمناعة والمرونة العصبية. الصمت الواعي يشبه إعادة تشغيل للنظام الداخلي، يسمح للجسد بأن يخرج من نمط «النجاة والخوف» ويدخل في نمط «البناء والترميم».
عندما يُمارس الإنسان الذكر المنتظم مع الصمت الاختياري، كما فعل زكريا ومريم -عليهما السلام، يحدث الآتي:
تنخفض مستويات هرمونات التوتر (الكورتيزول).
يُعاد تنظيم معدل ضربات القلب والتنفس.
يُفرز الجسم مواد طبيعية مضادة للاكتئاب مثل الإندورفين والسيروتونين.
تُنشّط الجينات المسؤولة عن الشفاء الخلوي وإصلاح الأنسجة.
تخيّل فقط ثلاث ليالٍ من الصمت والذكر... يمكنها أن تغيّر تعبير جيناتك بالكامل.
- «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ».
الصيام وعلاج السلوك الإيحائي: كيف يتداخلان؟
علاج السلوك الإيحائي هو أسلوب علاجي يُستخدم فيه التكرار الذهني الإيجابي لتغيير الأنماط العميقة في اللاوعي. وهو يعتمد على فكرة أن العقل الباطن لا يفرّق بين الحقيقة والخيال، ويأخذ التكرار كأمر واقع.
هنا تتقاطع هذه التقنية مع صيام الكلام:
حين تصوم عن الكلام مع الناس، فأنت تُوقف الضجيج الخارجي الذي يشتّت انتباه العقل.
وحين تملأ هذا الصمت بالذكر أو الجمل الإيجابية المتكررة (مثل: الله معي، سلام قولا من رب رحيم، حسبنا الله)، فأنت توجه العقل الباطن نحو البرمجة الجديدة.
هذا يُدخل الدماغ في موجات ألفا (Alpha waves) المرتبطة بالاسترخاء العميق والتأثير العالي على اللاوعي.
وما النتيجة؟
توليفة من الصمت + الذكر + الإيحاء الإيجابي تؤدي إلى:
إعادة تشكيل الاستجابات النفسية والعاطفية.
التحرر من أنماط التفكير السلبي.
تسريع الشفاء الذهني والجسدي.
الخلاصة...
صيام مريم وزكريا -عليهما السلام- ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو تقنية روحية وعصبية عميقة تُعيد برمجة الجسد والروح والعقل. ومع إضافة عناصر من علم الـ Epigenetics وعلاج السلوك الإيحائي، يتضح لنا أن هذه العبادة القديمة هي في حقيقتها أداة استشفاء شاملة.
فهل تتخيل أن ثلاث ليالٍ فقط من الصمت الواعي، والذكر الكثير، والتأمل في حضرة الله... قد تكون بداية شفائك الحقيقي؟!