عبدالرحمن الحبيب
«القرن الأمريكي» عنوان مقالة افتتاحية بمجلة لايف في فبراير 1941 كتبها الناشر الأمريكي هنري لوس مؤسس مجلات تايم ولايف وفورتشن، قدم خلالها رؤية للولايات المتحدة كقائدة للعالم ومُغيِّرة له، لكن يبدو أن تلك الرؤية تتغيَّر في ملامح عالم جديد يلوح في الأفق، على سبيل المثال الشهر قبل الماضي نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية (وهي عادة تميل للجمهوريين)، بحثاً طويلاً عنوانه «نهاية القرن الأمريكي الطويل: ترامب ومصادر القوة الأمريكية» كتبه روبرت أكيوهان وجوزيف إس ني، وهما أستاذان جامعيان مخضرمان ومؤلفا كتاب صدر منذ نحو خمسة عقود بعنوان «القوة والترابط: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية»، والثاني له كتاب آخر «حياة في القرن الأمريكي» من بين كتب أخرى.
الفكرة الأساسية لهذين الباحثين أن أبحاثهما منذ عقود تستكشف كيف أثرت التجارة على النفوذ، وأنه للمفارقة وربما على نحو يخالف البديهة، وجدا أن العجز في الميزان التجاري (زيادة الواردات على الصادرات) مع دولة أخرى يمكن أن يكون ميزة للدولة، حيث يعزِّز موقفها التفاوضي فيمكنها ممارسة الضغوط من خلاله على الدولة التي لديها الفائض، مثل فرض تعريفات جمركية أو حواجز تجارية أخرى على الدولة ذات الفائض التي ستواجه صعوبة في الرد بسبب قلة وارداتها النسبية، وأوضح مثال هو العجز التجاري الكبير للولايات المتحدة مع الصين.
تتناول المقدمة مواقف الرئيس ترامب مع غرينلاند وبنما وكندا والمكسيك وقضايا الهجرة، والانسحاب من الاتفاقات الدولية، والأهم هو الرسوم الجمركية الإضافية، حيث تعتمد كثير من الدول على القوة الشرائية للسوق الأمريكية الضخمة وعلى الثقة بالقوة العسكرية الأمريكية، مما تمنح هذه المزايا واشنطن هامشًا للضغط على شركائها. ويوضح الباحثان أن ذلك يتوافق مع حجة طرحاها قبل نحو 50 عامًا: أن المنفعة المتبادلة غير المتكافئة تمنح الطرف الأقل اعتمادًا في العلاقة ميزة، بينما «يأسف ترامب على العجز التجاري الكبير للولايات المتحدة مع الصين، لكنه يبدو أيضاً مدركاً أن هذا الخلل يمنح واشنطن نفوذاً هائلاً على بكين.»
«في محاولته الخاطئة وغير المدروسة لجعل الولايات المتحدة أكثر قوة، قد ينهي ترامب فترة هيمنتها نهاية غير احتفالية على ما أطلق سابقاً «القرن الأمريكي»، حسب الباحثان اللذان يريا أن ترامب قد حدد بشكل صحيح كيفية قوة الولايات المتحدة، إلا أنه استخدمها بطرق عكسية، لأنه بمهاجمته نمط تبادل المنفعة الحالي، فإنه يقوِّض أساس القوة الأمريكية، وهي قوة مرتبطة بالتجارة التي تعد قوة صلبة، قائمة على القدرات المادية؛ لكن على مدى السنوات الثمانين الماضية، راكمت الولايات المتحدة قوى ناعمة، قائمة على الجذب بدلاً من الإكراه أو فرض التكاليف.
حدد البحث نسب الصادرات الأمريكية إلى وارداتها على النحو التالي: عدم تكافؤ شديد مع الصين والمكسيك ورابطة دول جنوب شرق آسيا، إذ تتجاوز النسبة اثنين إلى واحد، أما اليابان فحوالي 1.8 إلى واحد، وكوريا الجنوبية 1.4 إلى واحد، والاتحاد الأوروبي 1.6 إلى واحد، وتتمتع كندا بنسبة أكثر توازنًا تبلغ حوالي 1.2 إلى واحد.
هذه النسب وحدها لا تستطيع تجسيد الأبعاد الكاملة للعلاقات الاقتصادية بين الدول، فالعوامل المُعاكسة، مثل جماعات المصالح المحلية ذات الروابط العابرة للحدود مع جهات أجنبية فاعلة في أسواق أخرى، أو العلاقات الشخصية والجماعية العابرة للحدود، قد تُعقّد الأمور ما يؤدي أحيانًا إلى استثناءات أو يُحدّ من تأثير الترابط غير المتكافئ، كما يؤكد البحث.
إلا أن البحث يشير إلى أن الصين تبدو الأضعف في قطاع التجارة وحده، حيث تبلغ نسبة صادراتها إلى وارداتها ثلاثة أضعاف، كما أنها لا تستطيع الاعتماد على التحالفات أو غيرها من أشكال القوة الناعمة، لكنها قادرة على الرد باستغلال عوامل مضادة، ومعاقبة الشركات الأمريكية المهمة التي تعمل بالصين مثل آبل أو بوينغ، أو الجهات الفاعلة المحلية الأمريكية المهمة مثل مزارعي فول الصويا أو أستوديوهات هوليوود، أو استخدام القوة الصلبة مثل قطع إمدادات المعادن النادرة.
تغفل إدارة ترامب بُعدًا رئيسيًا من أبعاد القوة، كما يرى الباحثان اللذان كتبا: «القوة هي القدرة على إجبار الآخرين على فعل ما تريد، يمكن تحقيق هذا الهدف بالإكراه أو الشراء أو الجذب؛ النوعان الأولان هما القوة الصلبة؛ والثالثة هي القوة الناعمة. على المدى القصير، عادةً ما تتفوق القوى الصلبة على الناعمة، ولكن على المدى الطويل، غالبًا ما تسود القوى الناعمة. يُعتقد أن جوزيف ستالين سأل ساخرًا ذات مرة: «كم فرقة يملك البابا؟» لكن الاتحاد السوفيتي قد زال منذ زمن بعيد، والبابوية لا تزال قائمة.»
يقول الباحثان يبدو أن الرئيس ملتزمًا بشكل مفرط بممارسة القوة الصارمة الأمريكية، لكنه لا يبدو أنه يفهم القوة الناعمة أو دورها في السياسة الخارجية، بينما يقول المتشككون: وماذا في ذلك؟ السياسة الدولية قاسية وليست سهلة، ونهج ترامب القسري والمعاملاتي يُنتج بالفعل تنازلات مع وعد بالمزيد في المستقبل؛ وكما كتب مكيافيلي ذات مرة عن القوة، من الأفضل للأمير أن يُهاب على أن يُحب. ولكن من الأفضل أن يكون مُهابًا ومحبوبًا في آن معاً؛ فللقوة ثلاثة أبعاد، وبتجاهله الجاذبية، يُهمل ترامب مصدرًا رئيسيًا للقوة الأمريكية؛ إنها إستراتيجية خاسرة على المدى الطويل، حسب الباحثين.