: آخر تحديث

غزة معضلة دائمةٌ للجميع

1
1
1

شهد الشرق الأوسط حروباً عديدة، إلا أنَّ الحرب على غزة كانت الأطول زمناً والأكثر ضحايا، والأبعد عن خلاصاتٍ تضع حداً لها، مثلما حدث في كل الحروب التي سبقتها. وكذلك فهي أضيق ساحات القتال مساحة.

غزة معضلةٌ شديدة الوطأة على أهلها أولاً، الذين صار الموت اليومي نمط حياتهم، والمجاعة بلاءً عاماً، وموت الأطفال مجرد أرقامٍ تُذكر في الأخبار. وهي كذلك معضلةٌ بالنسبة للفلسطينيين جميعاً، حتى لو كانت حياتهم خارج غزة، تبدو في ظاهرها عاديةً، ذلك أن حاضرهم ومستقبلهم ارتبطا بمآلات الحرب على غزة، ليس فقط فيما يتصل بالحلول السياسية التي يتطلع إليها الفلسطينيون التي ما تزال بعيدة، بل بما يمكن أن يحدث للضفة في اليوم التالي للحرب، وكيفية الاستثمار الإسرائيلي لما تحقق في غزة.

وهي معضلةٌ للعرب القريبين والبعيدين، ذلك لارتباطها بمسألة التهجير ليس منها فقط، بل ومن الضفة، ومع الصد المصري والأردني الفعّال للمسألة، فإن ما هو حاصلٌ في الضفة وغزة، هو أن هدفاً اسرائيلياً يجري العمل على تحقيقه، وهو جعل الحياة في المكانين مستحيلة، مما يجعل مسألة التهجير قسرياً أو طوعياً باقيةً على جدول الأعمال.

وغزة معضلة للعالم، رسمياً وشعبياً، سياسياً وأخلاقياً، فما يجري تحت سمع وبصر الكون كله، هي حرب إبادة صريحة، تؤديها دولةٌ محسوبةٌ منذ نشأتها وإلى ما لا نهاية على الغرب، الذي ينتج ويصدّر بضاعة حقوق الإنسان، ويضعها أساساً لسياساته، وحيال هذا التنكيل المنهجي بأبسط الحقوق الإنسانية، يقف الجميع عاجزاً عن ممارسة أخلاقياته ما دامت إسرائيل هي من ينتهكها.

وغزة معضلة للأميركيين، ولأجندة ترمب المكتظة بالوعود الإنسانية والحضارية والأخلاقية، والتبشير بعالمٍ جديد فإذا بغزة المدمرة يجري التعامل معها كمشروعٍ سياحي، يشترط كي يكون مجدياً تهجير ملايينها جميعاً إلى أي مكان يقبل بهم وإذا ما تعذّر الأمر لأسبابٍ لوجيستية فقط فبديله المؤقت هو المشروع الإسرائيلي المسمى المدن الإنسانية، التي سيحشر فيها مئات آلاف الغزيين في خيامٍ أو بيوتٍ مؤقتة ضمن ترتيبات سجن واسع المساحة، يماثل منظومة السجون الإسرائيلية المغلقة المنتشرة على جغرافية الدولة العبرية وما تحتل من أراضٍ في الضفة.

وحين نقول إنها معضلةٌ أميركية، فالأمر ليس فقط بحكم العلاقة الخاصة بين إسرائيل وأميركا، بل بإظهار عجز الدولة العظمى عن وقف الحرب على أصغر مساحة قتالٍ عرفها العالم، ما يؤكد عجزاً أكبر وأفدح لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يفترض أن يتطور وفق الأدبيات الأميركية إلى مشروع العالم الجديد كذلك.

وما هو معضلةٌ بالنسبة لأميركا هو كذلك بالنسبة للمدللة إسرائيل، التي تعيش ازدواجية مرهقة، ولكن صنّاع القرار فيها يتجاهلون، هي ازدواجية الألم من الحرب وخسائرها البشرية وتكاليفها الباهظة، والنشوة الساذجة بما يعدونه إنجازاتٍ خارقة حققتها آلتهم العسكرية التي تطير في فضاءٍ مواتٍ، وتضرب أناساً ومنشآت اقتصادية وبنىً تحتية في أماكن قريبة وبعيدة، وما إن يبدأ الشعور بالألم حتى يبدأ استصراخ أميركا والعالم للتدخل لوضع النقطة آخر السطر.

غزة الآن هي بالفعل معضلةٌ للجميع، غير أنَّ المعضلة الكبرى سوف تظهر في اليوم التالي، حين تتوقف الحرب ويجد العالم نفسه وجهاً لوجه أمام آثارها والأسئلة الكبرى التي أثارتها، وحول هذ اليوم لا إجابات ولو تقريبية على كيفية معالجتها، ليس لحكمةٍ أو دهاء لدى المشتبكين في معضلة غزة، بل لأن أحداً منهم لا يعرف على وجه الدقة كيف ستنتهي الحرب، وكل الذي يقال في هذا الأمر هو مجرد استنتاجاتٍ لا صلة لها بالمجهول الذي لا يُعرف عن اليوم التالي.

معضلة غزة لها حلٌ واحد ينكره الإسرائيليون، ولا يتبناه الأميركيون مع أنهم أكثر من يعرفه، وهو تسويةٌ شاملة، وليس معالجاتٍ بالقطعة لنتائج المعضلة دون الذهاب إلى جذرها، وحين تكرسّت غزة وما أفضت إليه من حروبٍ ومعضلات كنموذجٍ مختزلٍ للقضية الفلسطينية الأم ولامتداداتها، وتأثيرها في الإقليم والعالم، فليس غير تسويةٍ شاملةٍ من يعالج بفاعليةٍ هذه المعضلة وإن لم يحدث ذلك فمفاعل إنتاج المعضلات والحروب سيظل يعمل، وسيصبح الشرق الأوسط الجديد كالقديم، ينتقل من حربٍ إلى أخرى وهكذا...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد